19 - 06 - 2024

أعتذر عن التشبيه: مراحيض عمومية !

أعتذر عن التشبيه: مراحيض عمومية !

خلال مشهد من مشاهد مسرحية "ملك يبحث عن وظيفة" للكاتب الراحل سمير سرحان:

الفنان حمدي غيث (الملك): مهنتك أيه؟

ـ حداد

ـ وبتشتغل أيه؟ 

ـ نجار

ـ وانت ؟

ـ فلاح وباشتغل حطاب.

 وهكذا كلما سأل الملك أحد الرعية اكتشف إنه يعمل في غير ما يمتهنه.

بعد مرور 34 سنة من عرض المسرحية لأول مرة العام 1972 على مسرح توفيق الحكيم، أكمل السيناريست محمد محرز العام 2004، المعنى والمضمون (ربما دون قصد) في فيلم "غبي منه فيه" للنجم هاني رمزي وكتب هذا المشهد :

ـ ليل داخلي / هاني رمزي يجلس في مواجهة حسن حسني على البار بعد فشل ثلاثة محاولات للسرقة بسبب غباء الأول.

ـ حسني: صدقني الكار ده مش كارك .. لازم كل واحد مننا يروح لحاله .. في صحتك.

ـ هاني: هيه فين الصحة دي؟ ما خلاص !

ـ حسني: ما تقولش الكلام ده ..خلاص ايه ؟ربنا هايكرمك باحلى شغلانه ..الشغل كتير بس انت ركز.. 

حسن حسني ينظر لهاني ، يرمقه يعينيه ويرفع حاجبه الأيمن على طريقة الناصح الأمين ويقول:

 ـ اشتغل مهندس!

ـ هاني يهز رأسه رافضا.

ـ حسني : افتح عيادة !!

****

المشهدان (مسرح وسينما) يشيران إلى :

ـ لا رقابة على سوق العمل .. ولا توجد ممانعة أمام أي فرد في ممارسة أي مهنة .

ـ غياب تام لـ " المسمى الوظيفي" ، أو ما يعرف في الإنجليزية بـ :Job discripion

ـ سوق العمل غير منضبط ، تشريعاته تائهة في صخب أفكار اجتماعية مهيمنة تشيع ثقافة "الفهلوة" بمعانيها  المتنوعة ، بدءا من الشطارة وسعة الحيلة ، وانتهاء بسرعة البديهة ، والتصدي لأي مشكلة ، دون دراية أو حتى خبرة ، وبلا علم ، و تاريخنا المعاصر ملىء بقصص أفراد مارسوا مهنة الطب دون تصاريح أو حتى دراسة في الكليات الجامعية المتخصصة .. ظاهرة اجتماعية مدعومة بالموروثات والفقر والعادات والجهل، وهو ما عبر عنه المخرج صلاح أبو سيف في فيلم "الزوجة الثانية" عندما رفض عمدة القرية الاستعانة بطبيب متخصص لعلاجه من مرض الملاريا ، ولجأ لحلاق صحة ، يداوى المرضى بالمفتاح والبخور والكي بالنار.

 المؤكد في الأمر أن " الفهلوة" لها اسباب مرتبطة بالثقافة العامة ، والتشريعات ، والاقتصاد ، والتعليم ، وغيره من الأسباب التي أفاض في سردها وشرحها خبراء العلوم الاجتماعية .. فسياسة الانفتاح في عهد السادات، أحدثت انقلاباً في منظومة القيم ، فتحول المصري من الإنتاج الى الاستهلاك ، و حدثت خلخلة لطبقات المجتمع وقيمه ، وتآكلت الطبقة الوسطى ، فصارت الخطوط الفاصلة بين الخطأ والصواب غير واضحة.

ماسبق ، يفسر لنا الحال الذي عليه الإعلام المصري عموما والرياضي خصوصا :

ـ أحدهم يدير قناة رياضية تحتكر بث مباريات الدوري المصري في كرة القدم لم يدرس الإعلام بالمرة وكل مؤهلاته الدراسية "دبلوم متوسط" حصل عليه من ما كان يسمى بمعهد التعاون ، إضافة إلى حراسته لمرمى نادي جماهيري كبير منحه الشهرة والجماهيرية.. سبق وان اعتدى بالضرب والسب على الهواء ، وأمام آلاف المشاهدين ، على معلق كروي في برنامج "العاشرة مساء" الذي كان يقدمه الإعلامي الراحل وائل الإبراشي.. وهو الآن يهيمن على الإعلام الكروي في مصر بالإبتزاز والترهيب (خايفين منه) والمدهش والمثير للخزى في الوقت نفسه أنه يحاضر لطلبة إحدى كليات الإعلام!!!!

ـ آخر كان مراسلا لبرنامج يقدمه هذا الذي اعتدى بالضرب في برنامج "العاشرة مساء" ، تم إيقافه من قبل إدارة القناة التي يعمل بها والتحقيق معه بسب ما اعتبرته تدليسا وخداعا ، حيث استضاف عبر الهاتف أحد اللاعبين المحترفين في النادي المصري ، وأكد له أن المكالمة ليس على الهواء ، واستدرجه للإدلاء بتصريحات أثارت غضب جماهير بورسعيد وإدارة النادي والجهاز الفني .. هذا الذي لم يدرس الإعلام ولا الصحافة ، يعمل الآن في نفس الشبكة الإعلامية التي سبق وأن أوقفته عن العمل ، بمهمة محددة هي التسبيح بحمد كفيله السعودي (وزير) والدفاع بالحق أحيانا ، والباطل أغلب الأحيان عن نادي جماهيري كبير .. مشجع كرة من مشجعي الدرجة الثالثة أصبح إعلاميا مشهورا ويقدم برنامجا كرويا يستضيف فيه لاعبي الكرة السابقين ،(بمكافآت) لمشاركته التسبيح بحمد الوزير السعودي والانبهار بما يقوم به في السعودية الحبيبة.

ـ أيضا لاعب كرة سابق ، حاصل علي ليسانس الآداب و التربية عام ١٩٩٨ جامعة القاهرة بتقدير عام جيد جدا، يقدم برنامجا رياضيا ، ترك مهنته الأصلية كمدرب كرة ، ويطرح نفسه كمحلل كروي ، وإعلامي في الوقت نفسه ..ويعتقد أنه "البريمو" في التقديم التلفزيوني ، ويصر على إفتتاح برنامجه بخطبة إنشائية ، تجهل قواعد الصرف والنحو والرياضة .. رأسماله المعارف والوساطة التي جعلت منه إعلاميا.  

ـ رابع حاصل على بكالوريوس تجارة من "مودرن أكاديمي" بمنطقة المعادي ، كان نجما كرويا لامعا ، تجاوز في حق مدرب المنتخب حسن شحاته أمام الملايين ، على الهواء مباشرة خلال بطولة نهائيات أمم أفريقيا التي استضافتها مصر العام 2006 ، يقدم برنامجا كرويا لا يخلو من الوعظ والفتنة في آن.. يمسك العصا من المنتصف .. يدرب إذا ما تم تقديم عروض له من أحد االأندية ، ومقدم برامج إذا لم يجد فريقا يدربه.

ـ خامس كان يقدم برنامجا كرويا تسبب في أزمة كبرى بين المصريين والجزائريين عندما نعتهم بـ"بلد المليون عاهرة" بدلا من المليون شهيد ، بسبب مباراة في كرة القدم بين منتخبي مصر والجزائر.. مؤهلاته الدراسية لا علاقة لها بالإعلام وتقديم البرامج ، وعلى موقع "ويكيبيديا ، مجهول المؤهل.

ـ حتى عندما توقف النشاط الكروي في مصر بسبب مجزرة بورسعيد الشهيرة ، وتعطيل كل أوجه النشاط الرسمي ، لم يتخل "جهابذة" الإعلام هؤلاء ، وأصروا على تقديم برامج سياسية يتناولون خلالها الأوضاع السياسية والاقتصادية.

 الإعلام الرياضي أصبح مهنة لمن يبحث عن وظيفة ، وسبوبة للشهرة والمال ، واعتقد أن أيا منهم لن يتردد في "فتح عيادة طبية" إذا لم يجد شيئا يفعله .. بيد أن الأخطر إنهم يعملون لحساب "كفيل" أي كفيل سواء كان رجل أعمال أو شيخ خليجي ، أو حتى أجهزة سيادية لديها خاصية المنح والمنع !

لم تعد الأمور كما ساقها سمير سرحان في مسرحية " ملك يبحث عن وظيفة ، أو كما لخصها محمد محرز في إحدى مشاهد فيلم "غبي منه فيه" ، فقد تجاوز الزمن هذه الأمور وبات سوق العمل المصري ، وفي القلب منه الإعلام الرياضي ، مثل "المراحيض العمومية"، يمكن لكل من يبحث عن وظيفه ، قضاء حاجته فيها ، دون رقيب أو حسيب ، إلى الدرجة التي فاحت فيها الروائح الكريهة وعبأت الفضاء الإعلامي في بلدنا.

أعتذر عن قسوة التشبيه .
----------------------------
بقلم: أحمد عادل هاشم

مقالات اخرى للكاتب

الشارع لمين ؟





اعلان