من الأمثالِ التي سرت في الناس، وانتشرت انتشارَ النار في الحطب الجاف عبارة : ( كدّاب كِدب الإبل)، وتُقال لمن يُحدثُ الناسَ بخبرٍ، والحقيقةُ تُكذبه.
إذ كانت العربُ تتحسس موطنَ العشب والماء، فتتخذ من الإبل، التي تطلقها في المفازة المُهلكة دليلا، وما إن تراها تُحرك فمها وشفاهها يمينا وشمالا، حتي تتهلل أساريرها؛ ظنا أن الإبل وجدت عشبا تأكله، أو تفجرت من تحت أقدامها ينابيعُ الماء، فتهرع إليها، وقد كشفتْ عن سيقانها، فلا تجد شيئا، وتُفاجأ بأن ما حسبته لجّة أضغاثُ أحلام.
وإذا عذرنا الإبل فيما تصنع باعتبار أن تحريك فمها وشفاهها طبيعةٌ فسيولوجية، لم تُرد من ورائها خديعة أصحابها، فإننا لا نعذر البشر ذوي العقول والأفهام، الذين علموا من صحيح السنة أنَّ المسلم لا يكذب، حتي وإن اتسم بمثالب، وتباريح أخري، فقد يكون جبانا، أو بخيلا، ولكنه لا يكون أبدا كذابا.
مؤسف أن نجد أشخاصا، يُشارُ إليهم بالبنان، وربما حصّلوا أعلي الشهادات، ويسقطون في تلك الهوة السحيقة، رغم حفظم متون الأحاديث، التي تُقر بأنّ الكذب، يهدي (أي يقود) إلي الفجور، وأنّ الفجور يهدي إلي النار، وأنه لا يزالُ المرء يكذب، ويتحري الكذب حتي يُكتبَ عند الله كذابا.
هذا النموذجُ المُشاهَد والمألوف بين ظهرانينا لبعضِ من جابت شهرتهم الآفاق من إعلاميبن وكتاب، وحتي من ذوي اللحي، والثياب القصيرة، يُبرهن علي أنَّ البعض أغفل الدين، والبعضَ الآخر جعل الدين مظهرا، وغفل عن أنه إلي جانب المظهر، فلابد من الجوهر، وأنه إلي جانب العبادة، التي هي علاقة بين العبد وربه، فلابد من المعاملة، التي تُحافظ علي علاقة البشر ببعضهم بعضا مسلمين أو غير مسلمين.
آفة الكذب - يا سادة - انتشرت بيننا، واتسعَ معها الخرقُ علي الراقع، وصارت قاعدة، وأمسي الصدقُ استثناء، فتراها بين إعلاميين، غابت عنهم حمرة الخجل، وكتابٍ، أغفلوا أن كلّ كاتب سيفني، ويبقي الدهرُ ما كتبت يداه، وخطباء أضحوا أبواق فتنة، ونذرَ شؤم، ومؤلِفين مُدلسين سراق نصوص برمتها، وقراء قرآن لا يُجاوز القرآن حناجرهم، وغير هؤلاء الكثير والكثير، والغريب أنّ الكلّ يشكو ويصرخ .. ولهؤلاء جميعا - وأدعو الله ألا أكون منهم - أقول :
نعيبُ زماننا والعيبُ فينا /
وما لزمـاننا عيبٌ ســوانا.
----------------------------
بقلم: صبري الموجي *
* مدير تحرير الأهرام