20 - 05 - 2025

أسامة الرحيمي .. صيحةٌ في كهف الصمت !

أسامة الرحيمي .. صيحةٌ في كهف الصمت !

ليس غرورا أن أصرح بأنني  - رغم اعتدادي بنفسي، وثقتي في قلمي، وقدرتي علي التعبير عما أُريد بأسلوب مُشرق، وعبارة مباشرة جزلة -  أتضاءل في حضرة عمنا الرحيمي .

وأسامة الرحيمي لمن لا يعرف، آلتْ إليه رئاسة القسم الثقافي بالأهرام، الذي كنتُ أحدَ أفراده في وقت عصيب، حيث روَّج البعض عنه أباطيل وأسمارا، تزعم - علي خلاف الحقيقة - عدم حياديته، وانحيازه لمُعتنقي الفكر اليساري، وموالاته لأنصاره، حتي ولو كان ذلك علي حساب المهنة والعمل !

والحقيقة أن ما أُشيع عن الرجل من أساطير الأولين، لم يكن سوي افتراءات كاذبة، ودعاوي مُغرضة، روّجها ضِعافٌ عجزوا عن المنافسة الشريفة، فألصقوا به تهما هو منها برئ براءة الذئب من دم ابن يعقوب .

إذ أثبت الرحيمي أنه إداريٌ بارع، وهو ما أشاد به العدو قبل الحبيب .. وحقا : (الفضلُ ما شهدت به الأعداء)، فامتاز الرجل بعدالة لافتة، وشفافية واضحة، وإخلاص للمهنة، واحترام للفكرة بعيدا عن الاستلطاف أو عدمه، كما كان دائم النظر في شغل الزملاء، يرفض التدخل السافر؛ حفاظا علي روح الكاتب، وإذا تدخل بالزيادة والحذف فبغرض أن يصنع من (الفسيخ شربات)، وليس تأصيلا لفكرة الزعامة التي مارسها آخرون.

والرحيمي قارئٌ نهم، فلم تكن أبدا قراءاته - رغم سرعتها - سطحية، أو عابرة، إنما كان يستنبط ما بين السطور، ويغوص في لجج الجمل والألفاظ، فيستخلص معاني، لا يهتدي إليها إلا العارفون المخلَصون للثقافة والفن والفكر .

وأسامة الرحيمي هو محررٌ ثقافي من العيار الثقيل، وبنظري المتواضع، هو أروع من أجري حوارا ثقافيا، فكان يتجنب السطحية والمباشرة، ويجوب في سكك المُحاوَر ودروبه، ويسحبه رويدا رويدا ليبوح بخبايا نفسه وأسرارها طوعا لا كرها، كما لو كان خاضعا لتنويم مغناطيسي .

تلك الأسرار التي كانت قبل الرحيمي حبيسة بئر ليس لها قرار، فجاء الرحيمي وألقي فيها دلوه ونزح ماءها.

أجري الرحيمي حوارات مع كبار الكتاب والمفكرين، والفنانين، فمن ينسي حواراته مع جابر عصفور، وسمير سرحان، وعادل عصمت، والمخزنجي، وسلماوي، و أحمد عبد المعطي حجازي، وسناء البيسي، وشاكر عبد الحميد، وغيرهم، اتسمت أسئلتُه فيها بالجرأة المؤدبة، والانتقال السلس من سؤال لسؤال بعد تحصيل الغرض، واستيفاء الفكرة، ورغم ظهور شخصيته في ثنايا الحوار، إلا أن كلامه يكون علي قدر المطلوب بعيدا عن ( الاستعراض) اللفظي سلاح خواة الفكر !

والمؤكد أن حوارات الرحيمي بنصف الدنيا ، وملحق الجمعة هي صفحات ثقافية، ألقت الضوء علي عوالم أصحابها، وكانت حجرا  في مياههم الراكدة .

صنّف الرحيمي عديدا من الكتب، امتازت  بالصدق الفني، والمهنية الطاغية، والرؤية الاستشرافية، ومنها كتاب ( بوح المبدعين)، الذي مارس فيه دور الطبيب النفسي، فجرّ شخصياته ليُفشوا أسرارهم، ويبوحوا بما لايجوز البوح به، لولا موهبة الرحيمي !

ومن كتبه أيضا طباطيب العبر، وصباح الخير يا مني .

اعتدتُ كلما تعطشت للمعلومة الثقافية من نبعها الصافي أن أهرع إليه بمكتبه في الدور السابع بمبني الأهرام القديم، و(أنكشه) في إحدي القضايا، فتنساب من بين شفتيه أعذبُ الحكايات وأصدقها.

يمتاز الرحيمي بجانب هدوء الصوت، وسلاسة الحكي، وتراكم المعرفة، ببحة صوت حانية، تشنف لها الآذان فيصل ما يقوله إلي قلبك، وهو ما يذكرني بحكايات وصوت المؤرخ جمال بدوي .

رغم اختلافي معه فكرا، إلا أنني أعتبرُه من أصفي وأصدق من عرفت، إذ أثبت دائما أنه فارسٌ نبيل، فلم يجحد يوما خصومه حقهم، وهذا ما شاهدته بعيني مع كاتب هرع إليه بمؤلَفٍ له، ليقدم له عرضا في الأهرام فرفض لأنّ الكاتب شنّ فيه حملة ضارية علي فصيل فكري، لم يعد له (حولٌ ولا قوة)، وكان تبريرُ الرحيمي بأنه لا يتشفي في كيان مهيض كسير !

حكايات الرحيمي عن القرية، والطفولة وبلاط صاحبة الجلالة، وغيرها المنشورة في كتبه، وعبر حسابه علي (الفيس بوك) من أعذب الحكايات، الجديرة بالقراءة والتأمل والدهشة .

احترمَ الرحيمي مبادئه، ولم يقبل التنازلات، وقابل كثيرا من القرارات التي يختلف معها  بثغر باسم، ونفس راضية، وهو ما يُثبت أنه كبيرٌ بحق.
------------------------------
بقلم: صبري الموجي *
* مدير تحرير الأهرام


مقالات اخرى للكاتب

كن جبانًا ليسلم قفاك!