06 - 05 - 2025

خالد عزب يكرس كتابه الجديد للبحث عن الإنسان في ظل تسارع التقدم التكنولوجي

خالد عزب يكرس كتابه الجديد للبحث عن الإنسان في ظل تسارع التقدم التكنولوجي

صدر عن دار المتوسط في ميلانو كتاب "البحث عن الإنسان" للدكتور خالد عزب. الكتاب يطرح تساؤلات بشأن التقدم العلمي المذهل منذ ستينيات القرن العشرين إلى الآن، والتغيرات السريعة المصاحبة له. فالنانو تكنولوجي وتكنولوجيا المعلومات يغيران العالم بشدة كما يرى خالد عزب. 

وهو يرى كذلك أن المعدل السريع للتطور التكنولوجي أدى إلى حدوث خلل اجتماعي، فالتكنولوجيا يمكن أن تتغير بسرعة حيث تنتقل من الدراجات إلى سفن الفضاء مرة واحدة في العمر، من الهاتف المحمول بين جدران المنزل إلى الهاتف المحمول بين يديك في كل مكان، إلى الهاتف الذي يقوم بعدة وظائف ومنها تحويل الأموال والدفع الفوري والتقاط وإرسال الصور والأخبار. كل هذا في أقل من عقد من الزمان. وهذا يطرح لدى علماء الأنثروبولوجيا وعلماء النفس والاجتماع سؤالا ملحًا هو: هل يمكن أن تتغير أشكال المجتمعات المؤسسية والقيم بشكل كبير في مثل هذا الوقت القصير؟

الحقيقة أن قيم الإنسان كان من الممكن أن تتشكل بسهولة في العصور الماضية، وبحلول الوقت يصبحون مراهقين ثم تتطور القيم التي تشكل جوهر شخصيتهم وهويتهم، ويبني الانسان حياته حول هذه القيم، وبذلك تصبح القيم ثابته يتأقلم الإنسان معها بحيث لا يستطيع عقله تخيل المجتمع بدونها. 

كان الشاب لا يستطيع أن يتزوج خارج منزل الأسرة في مصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. لكن مع بدايات القرن العشرين بدا ذلك وكأنه أمر مسلم به، ومع القرن الحادي والعشرين صار أمرا بديهيا، وترتب عليه انتهاء فكرة الأسرة الممتدة بالتدريج، ومنزل الأسرة، والحي الذي يعرف الناس سكانه أبًا عن جد. 

هذا ارتبط بتغيرات في الأشكال المعمارية للعمارة السكنية. فأصبحنا نتعامل مع وحدات في بنايات سكنية، كل وحدة مغلقة على ذاتها، وهذا أدى إلى تلاشي قيمة الجوار والقيم المصاحبة لها. كل هذا ولد من رحم توسع المدن وظهور الطاقة المحركة للسيارات ووسائل النقل، ثم الصحافة والتعليم وصعود الفردانية أو الفرد عبر استقلاليته المالية، خاصةً مع تعليم الفتيات وعملهن، بل ومشاركتهن في الصرف المنزلي، وهو أمر كان من المستحيل من ذي قبل. 

في الريف المصري كانت المرأة تساعد زوجها في الحقل، ترعى الحيوانات التي تربيها في المنزل. كانت امرأة مساهمة ومشاركة اقتصاديًا في المنزل. الآن تحوَّلت إلى امرأة مستهلكة لمنتَج المدينة؛ بدءًا من الخبز الذي يعد خارج المنزل، إلى المصنعات الغذائية التي كانت تنتجها منزليا. بالرغم من هذا فإن المرأة المساهمة بالفعل الاقتصادي في الريف لا تعترف بها الدولة كمنتج ومساهم اقتصادي، بل تضيق عليها إلى درجة تهميشها، على الرغم من أن إنتاج الالبان ومشتقاتها لهذه المرأة مساهم في انتشال أسر من الفقر المدقع، بل ساهم في دعم هذه المرأة المعيلة.

قيم مهجورة

يقودنا خالد عزب إلي استحضار ما يمكن أن نسميه "قيما مهجورة". هذه القيم يرى البعض أن غيابها يؤدي إلى انزلاق المجتمعات للمجهول، في عالم يزداد كل يوم تعقيدا مع تسارع وتيرة التقدم التقني، خاصة في وسائط التواصل الاجتماعي، وهي مجتمعات افتراضية، تشكل أحيانًا شبكات تكون خاصة بقضايا النوع والمرأة واهتماماتها، أو شبكات تربط متخصصين كالمؤرخين أو الصحفيين، مع تحولات في أنماط الاقتصاد والاستهلاك تستحق التأمل.

لقد أصبحت العزلة الفردية أزمة تعاني منها المجتمعات، لدرجة توحد الفرد مع وسائط التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي، حتى رجال الدين وكبار السن يشعرون بالعزلة، حتى دور العبادة التي كانت تحتشد بالمصلين في أوقات الصلاة أصبحت شبه فارغة، إلا في أيام الجمعة أو في صلاة التراويح في شهر رمضان، ولم يعد الأبناء يولون الآباء والأمهات نفس رعاية هؤلاء لآبائهم وأمهاتهم، وأصبحت صلة الرحم تتم عن بعد وفي المناسبات. إلى ماذا يؤدي هذا كله؟

هذا يقود إلى موت العاطفة الإنسانية في المجتمع، ويشكل دون وعي احباطا يتم التعبير عنه في سلوك عدواني غير طبيعي، وإلى تطرف بعض أفراد المجتمع وانخراطهم في ردة فعل سلبية تصل إلى التزمت الديني واستدعاء مقولات تراثية وعزلها عن سياقاتها، كذلك يؤدي إلى حالة من اللا يقين بالوطن والبحث عن الهجرة من مجتمعات محبطة أو الانتحار في مجتمعات كالسويد التي توفر الرفاهية المحبطة للإنسان.

هنا يذهب خالد عزب إلى إشكالية: هل تتغير العلاقات الاجتماعية استجابة للتغيرات التي تحدثها التكنولوجيا بكافة أشكالها، هل يتغير معيار القيم لكي يتكيف مع التغيرات الحادثة؟

دور الدولة

وهو يقول: لقد وجدنا أيادي امتدت للتشكيك في دور الدولة وأهميتها، وأصبح الشك منهاجا للبعض. بل ناقش البعض مستقبل الحكومات إلى حكومات افتراضية تدير وتنظم ولا تتدخل في الشأن الخاص وتعظم الفردانية، هذه اليد تمثل الرأسمالية المتوحشة، التي تتاجر في المبيدات المميتة أو الأسماك المسممة وتسرب الغاز ونفايات النشاط الاشعاعي والمواد الصناعية المسببة للسرطان وأنواع البكتريا المخلقة بواسطة البحوث العلمية. هذه الأنشطة المضرة للإنسان تمنعها الحكومات ولو تركتها لأفنت البشرية من أجل مكاسب البعض. هنا تظل الدولة لها أدوار في كبح جماح البعض وممارسة دور رقابي وتنظيمي قوي، بل يمكننا القول إن نجاح الصين هزّ فكرة انسحاب الدولة من كثير من المجالات.

ينبهنا خالد عزب إلى عزوف النساء عن إنجاب الأطفال وتأخر سن الزواج على نحو متزايد. في المقابل تزايدت حالات الطلاق، حتى أن أيديولوجية الزواج والأسرة تتراجع بسبب هذا كله. والأجيال الجديدة عموما أدمنت أشكال التقنيات الجديدة على الأجهزة اللوحية أو الهاتف المحمول، ليتوحدوا معها، فتحل هذه الأجهزة محل الأسرة والأصدقاء والمجتمع بدرجة تهدد قدراتهم على التواصل مع الآخر؛ أيا كان، بل يبني هؤلاء عالمهم عبر هذه الشبكات، ويصبحون منغمسين في هذا العالم، باحثين عن مجتمع افتراضي. هنا يكونون فريسة سهلة لجماعات التطرف الجاذبة لهم، أو لعنصرية حمقاء.

من أجل ذلك، تبدو ثقافة المجتمع وكأنها قدرته على البقاء والمقاومة، فالثقافة هي مجموعة من السلوكيات والمعرفة التي مررت من فرد إلى آخر عبر التفاعل بين أفراد المجتمع، والنظم الثقافية هي شبكات معقدة من السلوكيات المترابطة المتكيفة، والمعرفة هنا بمثابة أدوات يستخدمها البشر من أجل تحقيق أهداف أو حل مشاكل، لتبرز الأفكار الثقافية التي تتاح للناس وهم يدركون أن في مصلحتهم استخدامها، لكن في النهاية وعبر الزمن نجد سلوكيات تتلاشى ليتم تجاهلها أو نسيانها. إن أكثر الأمثلة على ذلك في مصر هي عادة الأربعين بعد الوفاة؛ حيث يقام عزاء بعد أربعين يوما من وفاة أحد أفراد الأسرة، هذا سلوك عرفه المصريون منذ قديم الأزل، لكنه في عصرنا تلاشى تدريجيًا ويكاد يختفي.

المجتمع والفردانية

يري خالد عزب أن كل إنسان لديه مجموعة من الأدوات السلوكية والايديولوجية والاجتماعية للاختيار من بينها، في محاولة لتحقيق غايته، مثل الغذاء ووسائل الراحة والترفيه والصعود الاجتماعي والاستحواذ الاقتصادي. ويحدد الإنسان تجربته الذاتية من خلال اختياراته من بين هذه الأدوات. وهناك من يتبع الأنماط السائدة، فيختار كما يختار الآخرون، وهناك أيضا من له خياراته، لكن في النهاية هناك أنماط محددة في كل مجتمع يفرضها الذين يديرونه أو أوجدوه، وبالتالي تقع على عاتقهم مسئولية بقاء هذه الأنماط، بينما قبول خرقها إما لإحداث تغيير سلبي أو إيجابي يقع على عاتق هذا المجتمع الذي إما أن يقبل أو يرفض هذا الخرق، فماذا لو كان هذا المجتمع الفردانية هي قوامه، وأفراده متوحدون مع آلة تخلق مجتمعًا آخر افتراضي يتصاعد دوره؟

إن هرمية السلطة؛ سواء سلطة المجتمع أو الدولة أو الأسرة، تلتقي في آن على رأس التسلسل الهرمي من يفرض سلطته ويتخذ القرارات، ويسعى إلى تحقيق مصالح الآخرين على حسابنا، مما يؤدي لقيود على سلوكنا وكذلك على فرصنا، إن المهم هو الممارسة العملية للسلطة مع مصالح من تمارس عليه سطوتها، فتفيد تصرفاته لصالح هذه الممارسة.

تجديد القيم

يمكننا أن نستعيد التجديد في قيم المجتمع، فلو أن هناك أداة سلوكية لم تنجح، فإنه في النهاية يتم التخلص منها من قبل معظم الناس تلقائيا بغض النظر عن الأساس الأيديولوجي لها، لكننا في عصر تسيطر فيه الآلة بصورة متعاظمة ومتغلغلة على الإنسان، فالذين يتحدثون عن ذكاء الآلة وإدراكها، ينسون أن مبتكر الآلة هو الإنسان، أتاح لها أن تحدد للإنسان مشاعره ورغباته وهوياته، بل تسلبه وقته لكي تسيطر عليه عبر عملية الهاء لا تتوقف، فهل يستطيع الإنسان وقف هذه الأداة السلوكية أو حتى تحجيم تأثيرها فيه؟

لاشك أن العواطف تزود الإنسان بالطاقة الإيجابية. العواطف المستمدة من الروح الإنسانية، وهو ما تفتقر إليه الآلة، فالمشاعر الإنسانية هي النسيج الذي يحفظ النظم الثقافية، فميلنا للحب والكراهية والإهداء والعطاء وممارسة الشعائر الدينية وموروثاتنا الجينية العاطفية نحو الأقرباء، جميع ذلك لا يمكن أن يكون للآلة دور فيه، حتى لو أدركت الآلة أحاسيسنا نتيجة تطويرها برمجيا، فهي ستظل عاجزة عن إدراك المشاعر على طبيعتها، فالحياة الإنسانية فعل به روح وحركة ديناميكية غير فعل الآلة الخاضع للحساب الرقمي الدقيق.

ويذهب خالد عزب إلى أن معظم الناس لديهم القدرة على استيعاب القيم الأساسية لمجتمعاتهم، ومدركين أن عدم التفاعل معها سلوكيا يؤدي إلى تفكيك النظام وتهديد فرص الجميع في البقاء أو النجاح، وشيوع جرائم تهدد النسيج الاجتماعي ومصالح الأغلبية، ولذا فانه في كل المجتمعات من يشكل تهديد لمصالح الأغلبية ويخرج عن قيمها يتم تهذيبه واصلاحه. لذا فلابد من وثيقة ترابط اجتماعي تمثلها منظومة القيم التي أصبحت الآن محل تساؤلات؟ فالسؤال المطروح ماهي التغيرات التي يمكن أن تحدثها الثورات العلمية في منظومة القيم؟ وماذا يجب أن يقول الماضي والحاضر عن المستقبل؟