لم أرَ أحدًا أتعبه ضميرُه مثله، نشدَ المدينة الفاضلة، واستشرفَ المثالية في الأخلاق والطباع، فعاش مهموما، ومات وحيدا .. بيتُه مملكته، التي سَعِدَ بها، ولم يرض عنها بديلا !
صبيح أحمد دحروج ..نموذجٌ فذٌ في المهنية والأخلاق، ومثالٌ فريد في الإخلاص في العمل، والبذل والعطاء . ربطتني به علاقةُ التلميذ بأستاذه، وسرعان ما توطدت أواصرُ تلك العلاقة، فصارت صداقة، ارتقيتُ بها مرتقي، حسدني عليه أقراني .
امتاز الرجلُ - برَّد الله مضجعه - بشفافية نفس، ورهافة حس، أرهقته، وأرهقت من حوله، إذ نشدَ فيمن عاملَ، وخالط، وصاحبَ أن يكون ( آية في مصحف ) وهذا مُحال !
في رحلة بحثه عن القيم والأخلاق، أغفلَ الفقيد أن الوسطية في كل شيء حتي في الحب والكره هي طوق النجاة، وبر الأمان، أما الإفراط أو التفريط ففيهما الشقاء والتعب، ورغما عن هذا، فتكفي الرجلَ نيتُه النبيلة، حتي وإن أخطأ المسلك، وجانبَ الصواب !
عُرف صبيح منذ نعومة أظفاره بنبوغه العقلي، فكان أولَ أقرانه في كل المراحل الدراسية، وفاتته كليةُ الطب البشري علي درجات قليلة، فالتحق بالطب البيطري؛ ليحمل ( لقب ) دكتور، فيُدخل السرور علي قلب والده، ولكن الدراسة بالكلية لم ترق لمزاجه، فحوّل مساره إلي كلية التربية، والتحق بداية الأمر بقسم اللغة الإنجليزية؛ ليظل بصحبة رفيق دربه عبد العاطي شلبي مدرس اللغة الإنجليزية المخضرم فيما بعد، إلا أنّ ميول صبيح العلمية، دفعته لتحويل مساره مرة أخري، فالتحق بقسم الطبيعة والكيمياء، وتخرج فيه بتفوق، ابتلعه بعدها حقلُ التربية والتعليم، فصار أعجوبة زمانه عملا وإخلاصا وقيما ستبقي تُدرس جيلا بعد جيل !
كانت حصةُ الفقيد ورشةَ عمل، ومركز بحث، فوازن بحرفية مُنقطعةِ النظير بين الجانب النظري، والعملي، ولم يمل من شرح الأمثلة، وحلّ المعادلات، وكثيرا ما كان يقرع أسماعنا بعبارة .. ( التكرار يعلم ...... !) .
كان تلاميذُ الفقيد في المراحل الإعدادية والثانوية أشبه بباحثين في المراكز البحثية، أو خبراء في هيئة الطاقة .
لم يكن الفقيدُ - رحمه الله - شغوفا بجمع المال، ولو أراد لحقق من عائد الدروس الخصوصية ثروة طائلة، ولما لا ؟!
وهو بحق المدرسُ الأنبغ في مادة الفيزياء في قريتنا بل والقري المحيطة كلها، فالكل عيالٌ عليه، يصدق فيهم وفيه قول القائل :
ومن يُسوي بأنف الناقة الذنبا ؟!
وأبدا ما قصدتُ التقليل من شأن الآخرين، ولكني أردتُ أن أثبتَ أن الفقيد كان نسيجَ وحده !
أشقي الرجلَ ضميرُه، وأرهقته شفافيته، إذ كان يغضب أشد الغضب ممن يبدر عنه خطأ، ولو كان غير مقصود، ولم يكن أبدا مُحقا في هذا، إذ إنَّ كلَّ البشر خطاء، وخير الخطائين التوابون، ولكنها الطباع، ولو اعتبرنا ذلك عيبا، فيرد علينا قول علي بن الجهم :
وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها/
كَفى المَرءَ نُبـــــلاً أَن تُعَدَّ مَعايِـبُهْ
لم تخل حياةُ الفقيد من مواقف طريفة، فحدث وقتما كان طالبا في المرحلة الثانوية أن جلس برفقة زميله عبد العاطي شلبي، يعدان كم مرة ذكر مدرس الدراسات الاجتماعية كلمة (فعلا) أثناء الحصة، فجلسا يرسمان حزما، كل حزمة عبارة عن أربعة خطوط رأسية يقطعها خطٌ أفقي، وبحاصل ضرب عدد الحزم في مجموع كل حزمة، يكون تعداد كلمة فعلا، التي كانت من لوازم كلام الأستاذ عبد العليم رضوان آنذاك، فطن المدرس لانشغالهما، فتسلل إليهما ورأي الحزم، وعرف قصتها، وكانت وقتها حكاية لها العجب .
ومن طريفِ الحكايات أيضا أنه في أحد الأيام، وأثناء وجود أ. صبيح بفصلنا، دخل علينا موجه الفيزياء؛ ليراقب سير العمل، ويختبر مدي استيعابنا للمادة، فتمسمرت رجلاه بجوار طالب بينه وبين الفيزياء خصومةٌ ولدد، فسأله الموجه سؤالا، ولم يُجب، فأجلسه، ثم سأله مرة ثانية، لم يكن حاله فيها بأفضل من الأولي، فأجلسه، ثم وجه له سؤالا ثالثا، فأصاب الطالبَ الخرسُ، ولم يعد ( يصد ولا يرد )، وجلس يتفصد عرقا، تتوالي دقاتُ قلبه، وتصطك أسنانه، وترتعش رجلاه، ويدعو من أعماق قلبه أن ينصرف عنه ذلك الموجه (السمج)، والذي همَّ بسؤاله مرة أخري، كدتُ بسببها أنفجر من الضحك، أو قُل انفجرتُ بالفعل من هول ما عاني زميلي، فما كان من الأستاذ صبيح إلا أن احتضن الموجه من تحت إبطيه، وهو يقول : ( ارحمْ أم الولد، وتحرك للأمام أو يمينا أو شمالا لتسأل غيره !
لم يتكبر صبيح دحروج، وهو الأستاذ المهيب أن يصاحب طلابه، فحدث أن تقرب مني، وغاص في أعماق نفسي، وعرف سبب تشتيت انتباهي، وأثبت أن ما بذهني ما هو إلا أضغاثُ أحلام !
أحببت الفقيد، كما أحبه غيري، وكان موته صدمة أفجعتنا جميعا، لكنه قضاء الله .
رزق الفقيد بزوجة، عاشت معه الحياة بحلوها ومرها، وزهدت فيها بعد رحيله، فلحقت به سريعا، وتركا ذرية طيبة منها الطبيبة الأديبة، والمهندس رجل الأعمال، اللذان بنجاحهما أثبتا أنّ ( من خلف لم يَمُتْ ) .
----------------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام