06 - 05 - 2025

الخليج العربي.. ثقافات متعددة وانفتاح على الآخر

الخليج العربي.. ثقافات متعددة وانفتاح على الآخر

اختزل الخليج العربي في صورة واحدة هي الجمل والصحراء، وهي صورة نمطية رسخها الغرب صحبتها رؤية فوقية، في حين أن الخليجي ظل معتزا بالجمل ولا ينكر الصحراء بل يعتز بكونه إنسانا روّض الصحراء لكي تكون حياته بها أسهل وأيسر، وليس أدل على هذا من بيوت "السدو" التي تتحدى الرمال والحر الشديد. 

كما مثل اكتشاف النفط في منطقة الخليج العربي مرحلة أخرى في بناء صورة نمطية للخليج العربي، لكن سرعان ما استطاعت دول هذه المنطقة بناء صورة مغايرة، فالثروة لا تعني الرفاهية المطلقة أو إنفاق المال بلا حدود ولا عائد، فعبر الصناديق السيادية واستثمارتها الجيدة، باتت هذه الصورة النمطية تأخذ منحى عكس المنحى السلبي الذي حاول الغرب أن يجسده، فصار يسعي لاستثمارات هذه الصناديق في بلاده واعتبرها أساسية لدعم اقتصاده. 

إن جغرافية هذه المنطقة الممتدة من البحر الأحمر إلي الخليج العربي، ليست صحراء فقط، بل هي بيئة متنوعة، مما يجعلنا نعيد بناء رؤيتنا لها عبر الجغرافيا الثقافية، ما بين الزراعة الحضرية في عسير واليمن والواحات، وبين موانئ تجارية مثل مسقط وصحار وجدة ومخا والحديدة، وبين رعاية الإبل وزراعة النخيل إلى صيد اللؤلؤ وطقوسه، وبيئة صيد الأسماك، نحن هنا أمام مساحات من الثراء التراثي والثقافي، الجمل والصحراء. هنا حضارة تقدم التحدي والابداع عبر العصور، فالعرب هجنوا من الجمال أنواعا؛ منها الذي يحمل طنا ونصف الطن لحمل بضائع للتجارة، أو السريعة التي تنقل البريد والتي شاعت بسببها مسابقات الهجن والتي بدأت كصورة غريبة على من لا يعرف الثقافة العربية الأصيلة. فسباقات الهجن صارت تجذب الآن مشاهدين في تتابع ينبيء عن تحولها إلى أحداث جاذبة للسياحة. 

جديد قديم 

اكتشف العالم الخليج العربي في السنوات الأخيرة، حينما أراد إعادة اكتشاف ذاته وتراثه بعد طفرة النفط التي طغت على كل مناحي الحياة، ويعود الفضل في ذلك إلى إعادة الاعتبار للعادات والتقاليد الشعبية، فتمسك النخب الخليجية بالزي الوطني كان دافعا بمرور الوقت إلى إعادة الاعتبار للتراث والثقافة الوطنية. تجاور مع هذا تمسك الأجيال القديمة بتراث صيد اللؤلؤ.وتوثيق صيد اللؤلؤ، في أفلام عدة، قاد لتوثيق علمي ممنهج نراه في كتابات عالم الجغرافيا التاريخية الكويتي عبد الله يوسف الغنيم، لنصل إلى الوعي الخليجي المتنامي بالتراث الشعبي.فقد أسس الغنيم في عام 1981م (مركز التراث الشعبي لمجلس دول التعاون الخليجي) والذي اتخذ من الدوحة مقرا له منذ عام 1982م إلى إغلاقه في 2005م ، بالرغم من قيامه بمجهودات متعددة، أبرزها مجلته التي عدت سجلا جيدا لتراث الخليج العربي، حتى رأينا الآن دورا متصاعدا خليجيا وعربيا ودوليا لمعهد الشارقة للتراث،  فأنشطته الأكاديمية مميزة وكذلك جهوده في التوثيق، ولكن أيضا أنشطته المتفاعلة مع الناس خاصة المهرجانات والأيام التراثية، تعد شديدة الأهمية. وهذا يقودنا إلى تجربة مهرجان الجنادرية، ودوره في إبراز التنوع الثقافي في السعودية.ومع تزايد إدراك أهمية التفاعل التراثي والثقافي على الصعيد الدولي، رأينا جهودا لوضع التراث اللامادي الخليجي على قائمة التراث العالمي، ما دفع إلى تزايد الاهتمام به، ففي حالة مثل القهوة العربي تضاعف الإقبال عليها حتى صارت بعض الفنادق الكبرى تقدمها. وهنا ينبغي التذكير بأن القهوة لا تعد مشروبا، بل هي طقوس اجتماعية وثقافية تعكس العراقة العربية. وهناك أيضا "الصقارة"، أي استخدام الطيور الجارحة في الصيد، وقد صارت إرثا ثقافيا لمنطقة الخليج العربي، وكان لها دور كبير في الحفاظ عليه. أما أكثر الملفات التي كان لها مردود اقتصادي فضلا عن الثقافي فهو المتعلق بنخيل التمر وتسجيله على قائمة التراث العالمي؛ مما ساهم في تزايد الطلب على التمور والمنتجات الحرفية المرتبطة بنخيل التمر.

المؤسسات الثقافية 

يوما بعد يوم، صار الخليج العربي في حاجة لمؤسسات ثقافية عصرية تقدم ثقافته وتراثه وتبني أجيالا جديدة. هذه المؤسسات لابد أن تكون حيوية في التفاعل على أصعدة متعددة عبر برامج غير تقليدية. 

لذا نرى الآن في الخليج العربي عددا من هذه المؤسسات التي تلعب أدورا متعددة.ومن هذه المؤسسات مركز الملك عبد العزيز الثقافي (إثراء) في الظهران (شرق السعودية) ويعد أحد أكبر المراكز الثقافية في العالم وأكثرها حداثة من حيث استخدام التقنيات. وبالرغم من عمره القصير فإنه نجح في رسم شخصيته. مساحته 80 ألف متر مربع ويتكون من عدة بنايات مصممة ببراعة تعبر عن صخور الصحراء من بعيد وتفاعلها مع البيئة المحيطة بها في عدة بنايات متجاورة تضم برج "إثراء" الذي يتكون من 18 طابقا، ومختبر الأفكار يتكون من 3 طوابق، ومكتبة من 4 طوابق، لنرى فيه معرض الطاقة ومتحف الطفل وسينما ومسرحا ومساحات تقدم أنشطة مكثفة، لجذب الأجيال والأفكار الجديدة. 

وفي العاصمة القطرية الدوحة هناك "كتارا" أو الحي الثقافي والذي يعتبر نموذجا عربيا للاقتصاد الثقافي عبر الدمج بين الأنشطة الفنية والثقافية والأنشطة الاقتصادية المصاحبة. هذه التجربة واعدة في معطياتها، فالزائر يشاهد معارض فنية تتغير على مدار العام، ثم جلسات الراوي في أيام الخميس والجمعة والسبت، وهي مخصصة للحكي الشعبي، فضلا عن حفلات الموسيقي والغناء والمؤتمرات، ومتحف الطوابع العربية. 

أما مكتبة محمد بن راشد (دبي) فتعد أحدث المشروعات الثقافية في الخليج العربي، وهي تضم أكثر من مليون كتاب ورقي ورقمي، كما أن بها معارض وقاعات للمؤتمرات والأهم أنها صممت على شكل كتاب مفتوح يرمز إلى أن دبي تتلقى وتنتج المعرفة. هنا تبدو هذه المكتبة كمؤسسة ثقافية واعدة، فقد تحولت في زمن قصير إلي مكان يرتاده زوار دبي، فعدت نقلة نوعية لطبيعة السياحة في المدينة التي انتقلت من الترفيه إلى الصورة التي تعكس الثقافة والفنون. وفي هذه المكتبة أكثر من 400 مخطوطة كلها من النوادر، فضلا عن نوادر الكتب المطبوعة.

حماس الشباب

ويعد مركز جابر الأحمد الثقافي والفني على شاطئ مدينة الكويت صرحا معماريا مستلهما من العمارة الإسلامية. وهو بناية متعددة الوظائف، منها وظيفة دار الأوبرا، لكنك سترى المعارض والمحاضرات والمؤتمرات في المركز نشطة مما يجعله محطة للإبداع والتنوير والتلاقح الثقافي والفني، وعنوانا للكويت وهويتها.

وتعد دار الأوبرا السلطانية في مسقط من دور الأوبرا التي يجري البحث عن جدول حفلاتها عالميا على مدار العام. فبالرغم من أنها أول دار أوبرا في الخليج العربي، غير أنها سرعان ما تجاوزت ذلك لكي تكون صرحا يحسب له الحساب في الأحداث الفنية. تتكون الدار من 8 طوابق على مساحة 80 ألف متر مربع منها 3 طوابق تحت الأرض، افتتحت الدار عام 011 م، البناية بها روح فياضة من العمارة الإسلامية، أكبر قاعتها تستوعب 1100 من الجمهور. 

إن المؤسسات الثقافية المعاصرة في الخليج العربي تنقل الثقافة نقلة غير مرئية الآن، فالعاملون بها حاليا معظمهم من الشباب الذي نال تعليما رفيع المستوى.وهذا يعني ضمنا أننا ننتظر جيلا جديدا من الكوادر المؤهلة التي تكتسب خبرات متراكمة لإدارة العمل الثقافي في المستقبل. لذا علينا أن ننتظر في العشر سنوات القادمة بروز أسماء من داخل هذه المؤسسات. 

يبرز هذا مثلا في عدد من المكتبات في الخليج العربي مثل مكتبة الملك فهد في الرياض والتي تعد أفضل المكتبات الوطنية في المنطقة العربية حاليا، ومكتبة قطر التي تعد صرحا للمعرفة في الخليج العربي هو عنوان المكتبات في المنطقة بمشاريعه المتعددة وشراكاته الدولية.

على جانب آخر، يحسب لصانع القرار في الخليج العربي أنه حين شيّد مؤسساته الثقافية والتراثية، حرص على أن تكون معالم معمارية في المدن، بحيث صار التقاط الصور أمامها أو في قاعاتها معتادا. ومعتاد أيضا أن يقوم الزوار بنشر هذه الصور. وهذا ما يشي أن هذه المعالم نجحت في بناء صورة مميزة على غرار متحف لوفر أبوظبي بقبته وردهاته، ومتحف الفن الإسلامي في الدوحة. إننا في هذا السياق نذكربأن ساعة الحرم المكي المطلة عليه في برج مرتفع جعلها في أذهان المسلمين في كل أنحاء العالم تضاهي ساعة "بج بن" في لندن، بل لدينا معالم معمارية في الخليج تتكرر كصور ذهنية تعكس صورة الخليج الجديدة كمسجد الدولة في الكويت، أو مسجد كورنيش جدة، أو مسجد الشيخ زايد في أبوظبي، أو مسجد السلطان قابوس في مسقط وغيرها. كل مسجد من هذه المساجد صار ملهما للمعماريين في تفاصيله الدقيقة حتى في توزيع الظل والضوء وهو ما تميز به مسجد السلطان قابوس وكذلك مسجد الكورنيش في جدة فعلي صغر حجمه فاز بجائزة الأغا خان للعمارة.

ثقافة الجوائز 

منذ سبعينيات القرن العشرين بدأ الخليج العربي يلتفت لفكرة الجوائز وقيمتها المحفزة، سواء على الوطني أو الدولي، حتى صارت لدينا جائزتان مهمتان تمثلان في نتائجهما مؤشرا على من يفوز بجوائز دولية أخرى، مثل جائزة نوبل في فروعها العلمية التي فاز بها عدد ممن حصلوا على جائزة الملك فيصل التي تتميز بصرامتها، وكذلك جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، لتتتابع الجوائز وتتنوع. لكننا هنا لابد أن نرى الجوائز الخليجية وقد تابعها الآلاف مثل جائزة الرواية (البوكر) التي هي حدث عربي سنوي ينتظره القراء لمعرفة من هو الفائز، ثم جائزة كتارا للرواية والتي قدمت أقلاما جديدة للساحة الأدبية. لكن دبلوماسية وثقافة الجوائز تجاوزت هذا إلى ما هو أبعد، فمكتبة الملك عبد العزيز العامة أطلقت في عام 2006م ، جائزة الملك عبد الله العالمية للترجمة، وفروعها تتضمن الترجمة من وإلى اللغة العربية، وفي مجالات العلوم الإنسانية والطبيعية، كما تمنح جائزة للمؤسسات ولجهود الأفراد، لتطلق قطر جائزة الشيخ حمد للترجمة وهي متعددة الفروع. الجائزتان تعتبران من أهم جوائز الترجمة في الوطن العربي، ولعبتا دورا في الحضور الثقافي العربي على الساحة الدولية.

دبلوماسية الثقافة لها حضورها، فالسعودية تقود "يوم اللغة العربية" سنويا في اليونسكو في باريس عبر أنشطة متعددة، هذا ما جعل حضور اللغة العربية واضحا في ردهات هذه المؤسسة، خاصة أن العربية هي إحدى اللغات المعتمدة في اليونسكو. هذا ما قاد السعودية لتأسيس مجمع الملك العالمي للغة العربية، والذي سرعان ما بلور عددا من المشاريع الواعدة، مثل مؤشر اللغة العربية وتقرير سنوي عن حال اللغة العربية. لكنه كان سباقا في إقامة برامج عربية للذكاء الإصطناعي ومعالجة العلاقة بينه وبينها.

إن كل ما سبق هو بعض من كل، فليس هو حصر للثقافة والتراث في الخليج العربي، بل هو اضاءات على حالة الثقافة والتراث في الخليج العربي. هناك حراك قوي حيوي، لكن أيضا نحن في انتظار نتائج عدد من الاستراتيجيات التي جرى وضعها مؤخرا، في هذ السياق.
-------------------------------
بقلم:د. خالد عزب