صدرت في القاهرة مؤخرا ترجمة عربية لكتاب "التفكير بالأنظمة"، وهو من تأليف دونيلا ميدوز وتحرير ديانا رايت، وبالرغم من صعوبة وتركيب المادة العلمية التي يطرحها الكتاب، إلا أن الترجمة العربية التي قدمتها المترجمة القديرة بسمة ناجي جعلت النص سلسا، بل لعلها قدمت خدمة جليلة بالولوج بنا إلى موضوع غير مطروق في اللغة العربية. الكتاب الذي نشرته دار "آفاق"مترجما إلى العربية، جاء نتيجة عمل عشرات من المبدعين في مجال نمذجة الأنظمة وتدريسها لثلاثين عاما. معظم هؤلاء المبدعين من أعضاء مجموعة "ديناميكا الأنظمة" بمعهد ماساتشوستس للتنكولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهم من تخصصات مختلفة. الكتاب يوضح لنا فكرته الأساسية عبر عبارة في بدايته مستقاة من كتاب روبرت بيرسيج (فن صيانة الدراجة النارية) إذ يقول: (إذا هدم مصنع وظلت العقلية التي أنشأته قائمة، فإن تلك العقلية ستنشيء مصنعا آخر ببساطة، إذا أطاحت الثورة بحكومة، لكنها أبقت على الأنماط الفكرية المنهجية التي أنتجت تلك الحكومة، فستكرر هذه الأنماط نفسها، نتحدث كثيرا عن النظام، لكن قلّما نفهمه). ينطلق الكتاب إذن من وجود عشرات الكتب حول (نمذجة الأنظمة) و(التفكير النظمي)، لكن هذا لا ينفي وجود حاجة ماسة لكتاب بسيط وملهم حول الأنظمة، ولماذا نراها محيرة أحيانا وكيف نتعلم إدارتها بشكل أفضل وإعادة تصميمها. لذا جاء هذا الكتاب ليقدم لنا معرفة جديدة.
ترى المؤلفة أنه بمجرد فهمنا للعلاقة بين الهيكل والسلوك، يمكننا فهم كيفية عمل الأنظمة، وما الذي يجعلها تقدم نتائج متباينة، ونكتشف كيفية توجيهها إلى أنماط سلوك أفضل. بينما يواصل عالمنا تغيره السريع، ويصبح أكثر تعقيدا، سيساعدنا التفكير النظمي على رؤية طيف الخيارات الواسع أمامنا وإدارته والتكيف معه. إنها في رأي المؤلفة طريقة تفكير تمنحنا الحرية اللازمة لتحديد الأسباب الجذرية للمشكلات ورؤية الفرص الجديدة. لنتساءل بعد ذلك:ما هو النظام؟ فتعرفه بأنه: عبارة عن مجموعة أشياء أو أشخاص أو خلايا أو أيا كان، مترابطة بطريقة ما تجعلهم ينتجون نمطا سلوكيا خاصا بهم بمرور الوقت. قد يتعرض النظام لاصطدام، أو تقييد أو تحفيز أو توجيه من قبل قوى خارجية، لكن شكل استجابة النظام لهذه القوى خاصة به، ونادرا ما تكون هذه الاستجابة بسيطة في العالم الحقيقي. ترى المؤلفة أن النظام إلى حد كبير يخلق سلوكه، قد يحفز حدث خارجي هذا السلوك، لكن وقوع نفس الحدث الخارجي على نظام مختلف سيؤدي إلى نتيجة مختلفة على الأرجح. وطرح الكتاب ما يلي للقارئ للتفكير فيه:لا يتسبب القادة السياسيون في حدوث ركود أو طفرات اقتصادية، الصعود والهبوط متأصل في هيكل اقتصاد السوق. نادرا ما يتسبب المنافسون في خسارة شركة لحصتها من السوق، قد يستفيد المنافسون من حدوث ذلك، لكن الشركة الخاسرة تتسبب في خسائرها، جزئيا على الأقل، من خلال سياساتها التجارية.الدول المصدرة للنفط ليست وحدها المسؤولة عن ارتفاع أسعار النفط. لن تؤدي إجراءتهم وحدها إلى ارتفاع الأسعار العالمية والفوضى الاقتصادية، إذا لم يؤد فرط استهلاك النفط والتسعير وسياسات الاستثمار في الدول المستوردة للنفط إلى بنى اقتصادية معرضة دوما لخطر انقطاع الإمدادات. لا يهاجمك فيروس الأنفلونزا، بل أنت نت تهييء له الظروف ليتكاثر داخل جسدك.
تري المؤلفة أن شيئا ما حول النقاط السابقة مربك للغاية، وشيئاآخر، يتماشي مع الحس العام الخالص، وهي تسلم بأن مقاومة جوهر قواعد الأنظمة والاعتراف بها ينتجان عن نوعين من التجربة البشرية، وكلاهما يعرفه الجميع. من ناحية أخرى تري المؤلفة أن تعلمنا التحليل واستخدام مهاراتنا العقلية، لتتبع المسارات المباشرة من السبب إلى النتيجة، والنظر للأشياء كأجزاء صغيرة ومفهومة،وحل المشكلات من خلال التصرف في العالم من حولنا أو التحكم فيه، تلك الممارسة، هي مصدر الكثير من مظاهر السلطة الشخصية والاجتماعية، وتقودنا إلى رؤية الرؤساء والمنافسين كأسباب لمشكلاتنا. وترى المؤلفة أن تعاملنا جميعا مع الأنظمة المعقدة قبل أن نتعلم التحليل المنطقي بزمن طويل، فنحن أنظمة معقدة، أجسادنا أمثلة رائعة على التعقيد المتكامل والمترابط والمحافظ على ذاته كل شخص نلتقيه، كل مؤسسة، كل حيوان.. الخ، عبارة عن نظام معقد. الكتاب الذي بين يدينا يقدم فهما غير مسبوق لماهية النظام وكيفية التعامل معه. يقدم الكتاب في نهايته مجموعة من النصائح للتعامل مع النظام منها:تذكر أن التسلسلات الهرمية موجودة لخدمة الطبقات السفلى، لا الطبقات العليا من الهرم، لا تبالغ في تقدير أجزاء من الأنظمة أو الأنظمة الفرعية مع تجاهل الهيكل العام، وعليك أن تعزز خصائص النظام اجمالا، كالنمو، والاستقرار، والتنوع، والمرونة، والاستدامة، سواء كانت سهلة القياس أم لا. ساعد وشجع القوى والهياكل التي تساعد النظام على إدارة نفسه، ولاحظ عدد هذه القوى والهياكل في أسفل التسلسل الهرمي، ولا تكن متدخلا متهورا يدمر قدرة النظام على الإصلاح الذاتي، قبل الإقدام على تحسين الأوضاع، انتبه لقيمة ما هو موجود بالفعل، وحدد موقع المسئولية في النظام، هذا مبدأ توجيهي ينطبق على كل من التحليل والتصميم. ويجب عليك أن تتواضع وتواصل التعلم، فحين يقابلك ما لا تعرفه، ما عليك سوى التعلم، لا التحايل ولا التجمد. هذا الكتاب عرضه لا يغني عن قراءته فهو يثير فضول القارئ من أول صفحة.