اختارت مؤسسة الفكر العربي القاهرة لتطلق منها "التقرير العربي الثاني عشر للتنمية الثقافية". وعُقدت في المناسبة ندوة بالتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة، ناقشت على مدى يومي 18 و19 سبتمبر الماضي، اثنين من محاور هذه النسخة من التقرير السنوي، والتي جاءت تحت عنوان "الفكر العربي في عقدين 2000 – 2020: التحوّلات، التحدّيات، الآفاق". وتخلّلت الندوة جلسات نقاشيّة متعدّدة المحاور، شاركت فيها نخبة من المفكّرين والخبراء من عدد من الدول العربيّة منها مصر، ولبنان، وليبيا، وسورية، والسعودية، والكويت وفلسطين، والعراق والمغرب، وتونس، والإمارات وموريتانيا والجزائر، تولّوا عبر مداخلاتهم الإضاءةَ على أبرز ما تضمّنه التقرير حول الفكر السياسيّ والاجتماعيّ العربيّ في مطلع القرن الحادي والعشرين، واستكمالَ مباحث كتّاب التقرير وإغناءَها بمقارباتٍ وقراءاتٍ جديدة تأخذ في الاعتبار تفاعل الفكر العربيّ مع الأحداث والتحوّلات التي استجدّت في الفترة الممتدّة بين العامَين 2020 و2023، وفي طليعتها جائحة كورونا، والحرب الروسيّة الأوكرانيّة، وتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراريّ، وإشكاليّات الذكاء الاصطناعي، وما تسببه هذه الأحداث والتحولات من تداعيات ومخاطر وما تفرضه من تحديات.
تواكب هذه النسخة مرور عشرين عاماً على انطلاق مؤسسة الفكر العربي، ومن ثم فإنها تصلح لأن تكون مدخلا، للسؤال عن مدى انعكاس جهود تلك المؤسسة التي يضم مجلس أمنائها خيرة مفكري العرب، وتتخذ من بيروت مقرا رئيسيا لها، ويرأسها وجه بارز في العائلة المالكة في السعودية، هو الأمير خالد الفيصل، على واقع غالبية دول العالم العربي التي تزداد تأزما يوما بعد آخر، سياسيا وثقافيا، واجتماعيا واقتصاديا، وتكنولوجيا. افتتح التقرير الثاني عشر بكلمة لرئيس المؤسسة الأمير خالد الفيصل أكد فيها أن التحوّلات التي يرصدها، "يمكن وصفها، اختصاراً، بأنّها مصيريّة وخَطرة، وربّما فاقت بأخطارها مجمل المخاطر السابقة التي شهدتها دولنا وأمتنا". وأضاف: "يجدرُ بنا البحث فيها على قاعدة رؤيويّة نافذة، تستند إلى الفكر الاستكشافيّ التحليليّ التوعويّ كسلاحٍ هو الأمضى في عمليّة مُجابَهة المخاطر والتحدّيات"، معتبراً أن "هذه هي مهمّة هذا التقرير في المقام الأوّل، والذي يستجلي، من ضمن ما يستجلي أيضاً، متواليات حركة الواقع نفسها، وكذلك حركة الفكر، عربيّاً وعالميّاً".
قضايا قديمة متجددة
وأضاف الأمير خالد الفيصل: "وإذ آلَ هذا التقرير على نفسه رصْدَ مراوح هذه الحركة الفكريّة بأنساق جدليّاتها ومتغيُّراتِها المفارقة، ولاسيّما في العقدَين الأخيرَيْن، فذلك لما حَبِلَ به هذان العقدان من قضايا ما زالت مطروحة منذ القرن التّاسع عشر، مثل قضايا الهويّة، والدولة الوطنيّة، والتراث، والأصالة والتجديد وإصلاح الخطاب الدينيّ وغيرها، التي راحت تأخذ مدلولاتٍ مُختلفة بسبب طبيعة التغيّرات العالَميّة العاصفة، التي باتت تَفرضُ نظريّاتٍ ومَناهِجَ وأدواتٍ فكريّةً مُختلفة، ولاسيّما في ظلّ العولمة الشاملة، وما رافقها ويرافقها من تحوّلاتٍ في العلاقات الدوليّة وفي العلوم الإنسانيّة بفروعها وحقولها المعرفيّة المتنوّعة". واختتم بقوله: "من خلال هذا التقرير والتقارير السابقة عليه، لن تألوَ المؤسّسةُ جهداً في استكمال رسالتها الفكريّة والثقافيّة التنويريّة، انطلاقاً من قناعتها الثابتة بأنّ الفكر والثقافة هُما منارة العرب وثروتهم الحقيقيّة وضمان مستقبله".
وهكذا فإن سؤالنا: ماذا بعد؟ يكتسب جدارته من طرح الأمير خالد الفيصل، الذي كان أمينا في التعبير عما يواجه العرب الآن من "تحولات مصيرية وخطرة"، بعد تأمله ما احتواه التقرير العربي الثاني عشر للتنمية الثقافية من دراسات وأبحاث لمثقفين بارزين من مختلف أنحاء عالمنا العربي.
ومن جانبه عبر المدير العام للمؤسسة هنري العويط في مستهل التقرير نفسه، عن أمله في أن يُفلحَ هذا التقرير في تحقيقِ ولو جزءٍ من أهدافه، وبلوغِ بعضٍ من مَراميه... "وعسى أن يكون قد أَسهم في تعيين المهامّ التي ينبغي للفكر العربيّ أن يتولّاها، وفي طليعتها تهيئةُ مناخات الوعي وتوفيرُ مقوّمات الإرادة والالتزام، لإطلاقِ المَسيرة التي تخوِّلُ العربَ الذين أضاعوا فرصةَ صنعْ التاريخ في العَقدَيْن الماضيَينْ، لأن يصبحوا، في العَقدَيْن المُقبلَين وما بعدهما، صانعي تاريخهم ومُشارِكين فاعِلين في صناعة تاريخ العالَم وتحديد مَسارِهِ ومَصيرِه".
الواقع والتحولات
يتوزّع التقرير المشار إليه على خمسة مَحاوِر تدور أبحاثُها حول واقع الفكر العربيّ وتحوّلاته في العقدَيْن الأوّلَيْن من القرن الحادي والعشرين، باعتبارهما يُمثِّلان مرحلةً مفصليّةً حافلةً بالأحداث التاريخيّة والمُتغيّرات العميقة على الصعيدَيْن العربيّ والعالَميّ. وتجولُ هذه المحاورُ الخمسةُ في آفاق الفكر السياسيّ العربيّ، والفكر الفلسفيّ، والفكر الاجتماعيّ، والنسويّ، والتربويّ. وترصد أيضاً تعامُل الفكر العربيّ مع الثورة الرقميّة، فضلاً عن واقع الفكر الاقتصاديّ العربيّ، وتطرح رؤىً استشرافيّة ترسم ملامحَ المُستقبل.
ومن جانبه لاحظ جوزيف مايلا، وهو أستاذ زائر وباحث في العديد من الجامعات الأوروبيّة والأميركيّة الشماليّة والعربيّة، من أصل لبناني، أنّ التحدّي الذي يُواجِه الفكر العربيّ يتمثّل في العمل على الكشف عن أسباب العنف من أجل القضاء عليها، وحثّ الأمّة العربيّة على السَّير في طريق المُواطنة، والتعليم، والحوار، والتعدّديّة، والسلام. ورأى الأكاديمي العراقي عبد الحسين شعبان وهو ناشط بارز في مجال حقوق الإنسان، أن الدولةُ العربيّة واجهت في تطوّرها المُعاصِر تحدّيَيْن أساسيَّينْ، أوّلهما يتعلّق بالمشروعيّة، وثانيهما بالشرعيّة، وذلك لما له علاقة بالمُواطِن وحقوقه وواجباته. وأوضح أن المشروعيّة لها طابع قانونيّ، أمّا الشرعيّة فهي ذات طابعٍ سياسيّ، وحين يحصل اختلالٌ في أحدهما أو كليهما أو تتصدّع بعض قواعدهما، فإنّ ذلك سينعكس سلباً على التنمية المُستدامَة بجميع جوانبها وأركانها.
أما أستاذ العلوم السياسيّة المصري الدكتور علي الدين هلال، فقد شارك في التقرير ببحث قام على تحليل مضامينِ مجموعة واسعة من الكُتب والدراسات، ما كَشَفَ عن تركيز اهتمام المُفكّرين العرب على ثلاثة موضوعات: الصراعات العربيّة والحروب الأهليّة، قضايا الهُويّة والانتماء والتنازُع بين الهُويّات، تقييم أداء جامعة الدول العربيّة وسُبل تطويرها من أجل تحقيق التكامُل العربيّ. وخلُص البحث إلى نتائج رئيسية عدّة هي وجود تعدُّديّة واضحة في اتّجاهات هذا الفكر، وأنّ عروبَته لا تُستمدّ من اللّغة التي كُتب بها - وهي اللّغة العربيّة - وإنّما من وحدة الشواغل والاهتمامات بين الباحثين، بغضّ النّظر عن جنسيّاتهم، وأنّ هُناك عناصر استمرار وتغيُّر مُقارنةً بفتراتٍ تاريخيّة سابقة، تُظهِر الاستمراريّة في الاهتمام ببعض القضايا، كتقييم أداء جامعة الدول العربيّة، أو العلاقة بين الولاءات الوطنيّة والقوميّة، والتغيُّر في تزايُد الاهتمام بالقضايا التي ارتبطت بصراعات مرحلة ما بعد انتفاضات 2010 وتقلُّصاتها.
التقرير مهم، ولا يقل أهمية عن التقارير التي سبقته، لكن تلك الأهمية ستظل منقوصة ما لم يتم التوافق على آلية ولتكن في نطاق جامعة الدول العربية، تضمن أن تعمل الحكومات العربية على الأخذ بما يطرحه مفكرو العرب من مطالب واقتراحات ومشاريع تبتغي أولا وأخيرا نهضة الشعوب العربية، وإلا سيكون جهد كيان مثل مؤسسة الفكر العربي أشبه بالحرث في البحر.
------------------------------
بقلم: علي عطا