25 - 05 - 2025

"راوية الأفلام"... إيرنان ريبيرا يقدم قصة تُشاهَد وفيلماً يُقرأ!

عندما يتحدث كاتب في رواية له عن حكايا إنسانية في مدينة أو قرية فإنه سيضع بين دفتي كتابه عشرات الصفحات التي تغص بالمعاني والجمل والعبارات التي يحاول بها - إن استطاع - وصف الحياة وحكاياتها الرئيسية والفرعية. لكن ما فعله إيرنان ريبيرا لتيلير في روايته "راوية الأفلام" التي ترجمها إلى العربية صالح علماني، قلَب هذا الأسلوب رأساً على عقب دون إخلال أو تقصير، حيث يحكي بأسلوب مؤثر قصة الحنين إلى السينما وهي في مجدها الكامل في قُرى جنوب أمريكا. كاتب الرواية هو إيرنان ريبيرا لتيلير المولود في تشيلي عام 1950 نال العديد من الجوائز منها الجائزة القومية للكتاب بتشيلي لعامي 1994 و1996 ووسام الجمهورية الفرنسية بدرجة فارس في الآداب والفنون، عن جهوده في سبيل نهضة الفن ونشره في العالم. 

بالرغم من أن أعمال ريبيرا المبكرة غلب عليها الشعر والقصص القصيرة، إلا أن أعماله الروائية هي ما كتبت له النجاح الأعظم. تُرجمت كتبه إلى عدة لغات، ومن المتوقع أن يتحول بعضها إلى أفلام. يحلم ريبيرا بأن يمتلك أسلوباً أدبياً يميزه عن الآخرين، يمزج سحر خوان رولفو وغرائب ماركيز وبهجة كورتاثار وجودة فوينتوس وذكاء بورخيس. ريبيرا قدم سرداً لروايته بسلاسة منقطعة النظير وصوّر المواقف والحوادث التي تدور في أحياء الصفيح والحياة الأسرية في البيت الغارق في الفقر المدقع ومأساة والديّ ماريا مارغريتا وهي بطلة الرواية، وإخوتها، بأقل عدد من الكلمات وبعبارات سلسة وسهلة وموجزة. فعل ذلك بالرغم من أن الماساوية التي تتسم بها الرواية قد تحتاج من كاتب آخر إلى إطناب وإسهاب.

الواقعية السحرية

وهكذا جاءت الرواية مكتوبة بطريقة "التكثيف"، حيث لا مكان لكلمة زائدة، وبأسلوب الواقعية الساحرة وهو أهم مميزات الأدب اللاتيني والتي تجعلك تعيش الأحداث، وكأنك في قلبها. وقد ساعدت على ذلك بالتأكيد الترجمة المميزة لصالح علماني الذي استطاع أن ينقل إلى العربية روح تلك الرواية، وليس فقط متنها الظاهر. 

والمترجم صالح علماني ولد في مدينة حمص بسوريا عام 1949 ودرس الأدب الإسباني وأمضى أكثر من ربع قرن في ترجمة روائع الأدب اللاتيني ليُعرّف القرّاء العرب على عشرات الأعمال المتميزة والمهمة، وفي مقدمتها أعمال غابرييل غارسيا ماركيز وإيزابيل ألليندي. " راوية الأفلام" الصادرة  في تشيلي عام 2009 والمنقولة إلى العربية عام 2011، يصور فيها المؤلف على لسان بطلة القصة الحياة الصعبة والقاسية لسكان قرية يعملون في مناجم الملح الصحراوية. وتلك الظروف تشابه إلى حد التطابق ظروف نشأة إيرنان ريبيرا لتيلير الحقيقية. والتقط ريبيرا فكرة الراوي الذي كان يحكي الحكايات للأميين والعجائز في القرى الفقيرة وجعلها أداة السرد في "راوية الأفلام" والتي استرجع بها ذكريات دور السينما وهي في أوج مجدها في أمريكا اللاتينية عبر حكاية طفلة من إحدى القرى الصغيرة في تشيلي اشتهرت بقدرتها الآسرة على إعادة سرد قصص الأفلام. فكلما عرض فيلم جديد في سينما القرية يسرت لها أسرتها مشاهدته، رغم أنها أسرة تعيش في فقر وبؤس يمنعانها من مشاهدة الأفلام التي يحبونها. فكان الحل السحري بأن تدفع الأسرة ثمن تذكرة واحدة للفتاة  لكي تشاهد الفيلم ومن ثم تعود لتحكيه لهم بطريقتها الجذاب.

الصراع الطبقي

هذه الطفلة تروي حكاية وجع حقيقي لأناس يعيشون البؤس في تلك البقعة الجغرافيّة البعيدة. تروي حكاية الاضطهاد والفقر والصراع الطبقي، وحكاية الظلم والدكتاتوريات. ومع توالي الأفلام التي شاهدتها، اشتهرت هذه الفتاة خارح نطاق أسرتها، فقد كان أهل القرية ممن لا يستطيعون دفع ثمن تذكرة السينما يطلبون منها أن تحكي لهم الأفلام التي تشاهدها بأدائها التمثيلي وإكسسوارات وملابس إلى درجة صار بعض الناس يدعونها لتروي لهم أفلاماً في بيوتهم مقابل مبالغ معينة. لكن ذلك تسبب لها بمشكلة كبيرة وبخاصة مع المرابي أو الرجل الغني الذي اعتدى عليها وعلى براءتها وكتمت الأمر عن والدها.

اختراع التلفزيون

 هذه الطفلة التي رسمها ريبيرا في روايته، روت بلسانها حكاية بؤس إضافي حل حين حضر التلفاز حيث باتت صالات السينما شاغرة وانطفأ الشغف العظيم بها بعد انتشار الجهاز الجديد في القرية. تتصاعد الأحداث في الرواية لتنتهي ببقاء الفتاة وحيدة في المعسكر الملحي حيث عاشت بعد أحداث مأساوية عاصفة تتدبر أمرها بالعمل كدليل للزائرين والسياح وبيع بعض الأشياء القديمة التي تجدها أثناء تجوالها في البيوت المهجورة. "راوية الأفلام"، رواية قصيرة بمئة وتسع صفحات تناول الروائي حبكتها وشخصياتها وأحداثها بالكثير من البراعة والسرد المشوق الأصيل الذي عرض فيه ثقافة سينمائية عالية يتمتع بها وذكريات دور السينما قبل ظهور التلفزيون في تشيلي. ولعل النهاية التي رسمها ريبيرا للقصة والتي صورها كخاتمة فيلم سينمائي كانت واحدة من النهايات العبقرية التي كتبت في الأدب الحديث وربما في تاريخ الأدب كله حيث أنهاها بتلك الجملة: "أراهم يتلاشون في الأفق مثل سراب، بينما تكون الموسيقى التصويرية آخذة في الانطفاء شيئاً فشيئاً وعلى ظلالهم الباهتة تظهر بحزم وحتميّة الكلمة التي لا يرغب أحد في الحياة في قراءتها".
----------------------------------
بقلم: محيي الدين جاويش *

*كاتب وصحفي مصري ، صدر له كتاب "صباحات الياسمين" عن دار الهلال، و"يسرا" مجموعة قصصية عن دار "النيل والفرات"، وله تحت الطبع مجموعة قصصية للناشئة تحت عنوان "بيت قديم"، ويعمل حالياً رئيس تحرير بقناة "المجلس" الكويتية.

مقالات اخرى للكاتب