سيبقى ما ميّز حمدي أبو جُليِّل للنهاية هو الاتساق النادر مع النفس، والوضوح الشجاع الصريح. أنا شخصيًا مثلًا لم أضبط حمدي مرة يفعل أو يكتب ما لم يؤمن به، وأنا الذي كنت قد حرصت على الانتباه لآدائه في مقامات متفاوتة، شخصية، وعملية. وأستطيع أن أقول من تجاربي الشخصية إن الرجال المتسقين الشجعان والصرحاء مع أنفسهم هم في الأغلب وحسب التعبير البلدي "ولاد أمهم"، يعني تربية الأم بالتحديد، سواء كانوا يتامى الأب، أو كانوا لأي ظرف قد نموا وهم في دائرة هيمنة وتحت تأثير أمهاتهم بالأساس. وهو ما تؤكده مثلًا لي هنا سيرة حياة حمدي وعلاقته «اللحيمة» بأمه. وأظن أن ناتج هذا الاتساق عادة ما يكون تحيّزًا دائمًا للنفس، والانشغال بتجاربها الذاتية وألعابها واكتشافاتها الخاصة، وهو ما قد يفسر أيضًا انحياز حمدي البات وحتى النهاية لفكرة الكتابة الروائية عن «النفس» فقط، بعيدًا عن «التأليف» أو التخييل والاستعارة!
أما الفريدة الحقيقية الاستثنائية الأُخرى في حمدي فكانت هي تلك الموهبة أو العطيّة الإلهية التي ألهمت مبكرًا صبيًا يافعًا يتيم الأب، يشب في بيئة منهكة، خشنة ومهمشة، وعلى تخوم أبعد نقطة عن المركز، المتاح له فيها من تعليم أساسي لا يكاد حتى يصل للكفاف، بأن وراء الحياة وفي عمقها وأساسها إرادة «فنية»، وأن الثقافة هي الخريطة والآلية التي تُسيّر تلك الإرادة وتنظمها وتمنحها النَفَس والتجدد. فيقرر وهو بلا أي غطاء أو حماية، وبكل جسارة، أن يتجاوز مجتمعه، وينفلت من دائرة بيئته تلك التي استمرت تعيد إنتاج صورتها أجيالًا وراء أجيال بإيقاع متكرر مقفول. وينخرط بإيمان كالمعجزة وبذراعيه العاريين، وببساطة روح بدوية تنفر باشمئزاز حقيقي من أي ميلودراميات أو استعراضيات فجة في شق طريقه الموعود ليصل إلى دوره الحقيقي المبدع الفنان. بل وإلى صوته الخاص ونبرته النافذة. ويُقيم مشروعًا أصيلًا يتجلّى في كل أعماله الفارقة التي لا تشبه إلاه بالضبط.
يموت حمدي وقد مثّل لنا كشخص وكمبدع درسًا بليغًا في الشجاعة والإيمان بالنفس، واحترام الموهبة وفرصة حياة الحياة باستحقاق وإخلاص وكفاية. كان الاحتفال اليوم (أمس الأربعاء 16 يوليو) بك، وبميلادك السادس والخمسين، وبصدور روايتك الأخيرة «ديك أمي» احتفالًا مؤثرًا جدًا يا أخي. وأظنك سعيدًا ممتلئًا بكل هذا القدر من المحبة الحقيقية التي تداولها وعبّر عنها كل المشاركين بحميمية آسرة تخطف القلوب في احتفال دار "الشروق" الذي استضافته أمس قاعة "قنصلية".
---------------------
بقلم: أحمد اللباد *