بالأمس (الأربعاء 16 يوليو 2023) كنا في "ليلة حب حمدي أبو جليل" التي نظمتها دار "الشروق" مع أسرة الكاتب الراحل، وبعض الأصدقاء في قاعة قنصلية بوسط البلد. والمناسبة كان لها شقان، الأول يتعلق بأنها تواكب عيد ميلاد المحتفى به، والثاني صدور رواية جديدة له بعنوان "ديك أمي". طلبت الكلمة من مدير الجلسة الأستاذ هشام أصلان، كي أتحدث عن أمرين مهمين لدى حمدي، ولدى أي كاتب في العموم. لكن كعادة الندوات الكبيرة تكون مايكات الجمهور مشوشة ومفسدة لأي فكرة، مما يجعل الناس تعيش في حالة من الفوضى والاكتفاء بالنفس أو النميمة على الآخرين.
الفكرتان اللتان أردت طرحهما هما مفهوم الرواية لدى حمدي ورؤيته لدور السخرية في الكتابة. فمن المعروف أن حمدي "تخرّج" في مدرستين مصريتين كبيرتين في السخرية، هما مدرسة محمد مستجاب التي التحق بها فور مجيئه إلى القاهرة، وهي مدرسة تشبه جلباب مستجاب الواسع الكبير، وملامحه الضخمة غير المتناسقة، لكنها لا تخلو من محبة ولين وود. ومستجاب كغيره من الساخرين العظماء استخدم السخرية لتبيان مكان الذات من العالم، ومن ثم كان يصنع الأسطورة ويترك داخلها الثغرات الكفيلة بهدمها. فمهمة الثغرات في النصوص ليست استكمال التنويم المغناطيسي لدى القارئ، ولكن وخزه وتنبيهه، بما يفسد الأسطورة ويجعلها مع أول إعمال للعقل تتهاوى وتنهار.
فلسفة السخرية
وفلسفة السخرية هنا تذكرنا بالمبدأ الذي وضعه مؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون حين قال بضرورة قياس الشاهد على الغائب أثناء تعاملنا مع التاريخ، فحين يقال إن عوج بن عناق كان ينحني ليلتقط من البحر حوتاً ثم يرفعه ويضعه في عين الشمس ليشويه ويأكله، فلا بد أن نسأل أنفسنا عن قدرة الإنسان الراهن على فعل هذا أو نصفه أو حتى ربعه، فإن لم يستطع فإن الحكاية لا علاقة لها بالمنطق.
السخرية لدى حمدي أبو جليل ومحمد مستجاب تقوم على نفس المبدأ، وإذا كان مستجاب هو الذي يصنع الأسطورة ويضع فيها الثغرات التي تهدمها، فإن حمدي كان يقدم الأسطورة كما يشهدها الواقع، أو كما رُويتْ له وسمعها، ثم يقوم بنقضها أو هدمها، كاشفاً عن مدى عبث الحياة التي يعيشها أو تعيشها جماعته البشرية. وكأنه يعيد موضعة الذات أو الجماعة في موقعها الصحيح من العالم الذي تعيشه، وليس المتخيل الذي تحلم به.
وهو ما يذكرنا بالاب الروحي للرواية الحديثة، صاحب ملحمة دون كيخوته، فقد رأى سيرفانتس أن قصص القديسين المشّائين أصبحت مبالغاً فيها بشكل لا يقبله المنطق، ومن ثم اخترع شخصية دون كيخوته الذي صدق كل هذه القصص وقرر أن يعيد انتاجها، وخلق إلى جانبه شخصية معاونه سانشو المرتاب في أفعال سيده. ومن ثم كنا نرى الأسطورة أو التوهمات كما يراها دون كيخوتة، ثم ما نلبث أن نرى الواقع على حقيقته كما يراه سانشو. وقد استلهم حمدي هذه التقنية وقام بتطويرها والمزج بينها وبين تقنيات أخرى.
مدرسة أصلان
اما المدرسة الثانية فقد كانت مدرسة إبراهيم أصلان، المختلفة تمام الاختلاف عن مدرسة مستجاب. ففي الوقت الذي يحمل فيه جلباب مستجاب الواسع حصيلة لغوية ثرية إلى درجة الإبهار، حتى إنه كان يأتي للكلمة الواحدة بعشرات المترادفات، ولديه عشرات الأوصاف للشخص الواحد والفعل الواحد، فإن اصلان كانت رؤيته المتأنقة للغة تقوم على "التحكيك" والتنضيد، بما يجعل من الصعب اقتراح حذف كلمة أو إضافة أخرى في جملة لأصلان. فقد كانت عنايته الشديدة باللغة تجعلنا أمام نعومة صارمة، لا نملك أمامها سوى الفتنة بها والتسليم لها.
ربما هذا "التحكيك" والتنضيد الذي أغرم به حمدى تأثراً بمدرسة أصلان، هو ما دفعه للسعي للعناية باللغة، ولكن على نحو خاص به، فهو لم يكن مشغولاً بمنطقية الكلمة أو الفكرة، ولكن كان مشغولاً بمدى قدرتها على التعبير عما يتصوره أو يريد قوله. ومن ثم كان أبو جليل أميل لاستخدام العامية، أو المزج بينها وبين الفصحى، مستخدماً كلمات من قبيل: بالأحرى أو الأجدر أو إن شئنا الحقيقة، وذلك حين يطرح مفردة ويجد أن هناك ما هو أكثر منها قدرة على التعبير عما يريده.
جرأة مدهشة
كان حمدي يسعى لتصفية اللغة وتدقيقها كي يصل إلى الأكثر تعبيراً، وليس الأكثر منطقية، وربما تأثر بـ "مالك الحزين" اكثر مما تأثر بـ"عصافير النيل" لدى أصلان. لذا كان يرى أن السرد مجموعة لوحات متجاورة، وليس رؤية متنامية للصراع.
هناك مدارس أخرى قام حمدي بعمل دراسات تكميلية فيها أو من خلالها، وهي مدارس أجنبية أو مترجمة، في مقدمتها "دون كيخوته" التي كان يعتبرها بمثابة النص المؤسس لفكرة السخرية وليس الرواية فقط. وهناك كونديرا الذي آمن به حمدى أكثر مما آمن بنجيب محفوظ الذي حصل على جائزته من الجامعة الأمريكية عن روايته "الفاعل"، معتبراً أن كونديرا كان يسعى لمواجهة البعبع الكامن في داخل الإنسان وهو غرائزه. ومن ثم كان حمدي راغباً بجرأة مدهشة في إنتاج نص يواجه فيه هذا البعبع، ساعياً لتصفية مشاعره، وقول الحقيقة الخالصة، الحقيقة العارية تماماً حتى لو واجه كل أفراد جماعته.
مناقضة نجيب محفوظ
الأمر الثاني الذي رغبت في الحديث عنه هو مفهوم حمدي للرواية، هذا المفهوم الذي جعله يرى أن نجيب محفوظ أضرَّ بالرواية أكثر مما نفعها، فقد قامت رؤية حمدى عن أن الرواية هي الكتابة عن الذات، وكشف حقيقة موقفها من العالم، وهو ما يتفق مع فلسفته عن السخرية. ومن ثم كانت كتابته تدور كلها عن تجاربه الشخصية، وتدقيقه لحقيقة ذاته في وسط هذا العالم. كان انشغاله الدائم ليس بالمهمشين كما في أدب خيري شلبي أو بعض كتابات أصلان، ولكن بذاته هو، سواء في القاهرة أو في نجوع قبيلته، أو في سفره لليبيا وفرنسا. وتأتي بعد الذات مباشرة العائلة أو القبيلة بوصفهما الذات الجماعية، ومن ثم رأى أن الرواية هي كتابة الذات، وأنها حين بدأت كانت عن الذات وتحليلها لرؤيتها لنفسها في هذا العالم، فطه حسين كتب "الأيام" عن ذاته وتوفيق الحكيم كتب "عصفور من الشرق" عن ذاته، أما نجيب محفوظ فقد كتب "رادوبيس"، و"القاهرة ٣٠"، والثلاثية وغيرها، وأخرج الرواية عما أتت من أجله وهو تأمل الذات وفعلها.
وبغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا معه في فكرته هذه، إلا أنها كانت الفكرة الكاشفة عن رؤيته لفكرة الرواية والغرض منها، وأن فلسفته سواء في الكتابة أو السخرية تتمحور حول الذات وكشف أغوارها. وهو ما حاول جاهداً وصادقاً القيام به.
عناوين أبو جليل
فكرة أخيرة توحيها لنا عناوين الروايات لدى حمدي، فدائماً يختار عناوين تحمل نوعاً من التورية، أو لها مستويان من القراءة، فـ "لصوص متقاعدون" ليس بمعنى لصوص اعتزلوا السرقة، ولكنه يعني أناساً كسالى وقوة بشرية فائضة عن الحاجة تعيش على أجساد غيرها، و"الفاعل" ليس عامل التراحيل لكنه البنَّاء او العصامي، و"الصاد شين" ليست مجرد حرفين لكنها الصحراء الشرقية لليبيا، أو انها الشعب الليبي في الصحراء الشرقية.
أما "نحن ضحايا عك" (ليس رواية) فهو العنوان المأخوذ من النشيد الذي لحنه بليغ حمدي، حيث يتقدم وفد قبيلة عك اليمانية في طريقهم إلى الكعبة عبدان أسودان يلقبان بالغرابين، يرددان: "نحن غرابا عك .. عك اليمانية .. جئنا اليك نحج .. حجتنا الثانية". وقد استقى حمدى من هذا النشيد عنوان كتابه الذي أراد فيه تنقيح لتاريخ صدر الإسلام من الأساطير التي تخللته، ومن ثم غيَّر كلمة "غرابا" الى كلمة ضحايا، ليحدث هذا التغيير انزياحاً في المعنى، فتصبح دلالته أننا ضحايا ما حدث من "عك" في تاريخ الأحداث التي جرت. ومن ثم أخذ على عاتقه نقد الأسطورة، أو استعادة منطق ابن خلدون في قياس الشاهد على الغائب، وإعادة موضعة الذات في مكانها الصحيح من العالم والمزعوم أو المتخيل. وهو ما سعى لعمله في انشغاله بالتنوير خلال العقد الماضي، حيث رغب في وضع التراث العربي والإسلامي في موضعه الطبيعي والمنطقي من العالم والقدرة البشرية والمقبول انسانياً، وليس مجرد فنتازيا وأساطير لا يقبلها المنطق.
-----------------------------
بقلم: صبحي موسى *
روائي وناقد أدبي