18 - 06 - 2024

معجزات العذراء بين الحقيقة والخيال

معجزات العذراء بين الحقيقة والخيال

منذ فترة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وتحديدا الفيس بوك أيقونة للسيد المسيح، قيل إن هذه الأيقونة توجد في دير الصليب المقدس في جورجيا، لم يهتم أحد من التحقق من اسم الدير؛ الكل أخذ ينظر للأيقونة؛ فيسوع يفتح عينيه ويغلقهما.

الأيقونة لها اسمان: الأول وهو الأكثر انتشارا وشهرة "طرفة عين"، والاسم الثاني "أيقونة القديسة فيرونيكا"؛ التي مسحت بمنديلها وجه يسوع وهو يحمل الصليب إلى الجلجثة أي إلى مكان الصلب (طبقا للمعتقد المسيحي)؛ فطبع وجه المخلص مع تاج الشوك الذي على رأسه على المنديل؛ الذي يوجد في الفاتيكان؛ نترك الاسم الأول ونذهب للاسم الثاني؛ فهو بيت القصيد "أيقونة القديسة فيرونيكا" وهي السيدة التي مسحت وجه يسوع؛ فانتشرت هذه القصة في أوروبا خاصة في العصور الوسطى، وكما نعرف أن تلك العصور لها ذكريات سيئة ليس فقط على أوروبا؛ بل على العالم أجمع؛ فاستقرت القديسة "فيرونيكا" في العقل والوجدان الجمعي، وأصبح الاسم الثاني للأيقونة هو الأشهر؛ إلى أن اكتشفنا أو اعترفت الكنيسة الكاثوليكية أو كلاهما معا بعدم صحة قصة القديسة "فيرونيكا".

فالقصة غير مثبتة بشكل كامل، أو على أقل تقدير هي قصة غير دقيقة؛ ليست قصة "فيرونيكا" وحدها؛ بل هناك قصص كثيرة منها غير المثبت، ومنها المبالغ فيه، ومنها المختلق، ولكنه مستقر في الذهنية العامة استقرار اليقين، ولا عجب فهذه هي طبائع الأمور في مجتمعات مغيبة عقليا، لا تعرف من التعليم إلا شهادة ضعيفة هزيلة، ولا تعرف من الثقافة إلا مسماها؛ فأصبح وبات وأمسى المواطن يتعامل مع المعجزات بمنطق ("الحشيش" لو حرام ادينا بنحرقه لو حلال ادينا بنشربه)، وأنا هنا اقصد بالحشيش المعني المجازي؛ فكما يقول ماركس: الدين افيون الشعوب.

والأمثلة كثيرة جدا، انظر حولك وستشاهدها بنفسك، ولذلك سنجد كثيرين يؤمنون بوجود هذه القدسية حتى لو خرج مليون إثبات عكس ذلك؛ بمنطق (لو طلعت قديسة يبقى اديني اخدت البركة ولو مطلعتش قديسة يبقى مخسرناش حاجة، وكما يقول المثل الشعبي أبو بلاش كتر منه) كل هذا قد يكون مقبولا؛ خاصة في مجتمعاتنا؛ والتي تحيط رجال الدين بهالة مقدسة وتضعهم في منزلة أعلى من منزلة البشر، وبالتالي فأي شيء يصدر عنهم يكون محل ثقة؛ فما بالنا لو تعلق الأمر بالأولياء والقديسين، ووصل إلى السيدة العذراء؟! بالطبع سيقوم العقل الجمعي بتصديقه، وفي المقابل سيكون منطقيا وجود حالات التشكيك خاصة في أجواء محتقنة كالتي نعيشها.

ولكن ماذا عن المعجزات التي شاهدها العيان؟

سبق وذكرت في إحدى مقالاتي أن المُقدِس هو الذي يُكسب الُمقدس قدسيته؛ أي ان الأضرحة على سبيل المثال مقدسة بالنسبة لأصحابها، وغير مقدسة بالنسبة للآخر، والعكس بالعكس؛ فالتناول سر مقدس عند المسيحيين، ولكنه غير مقدس عند الآخرين.

نعود أدراجنا ونقرا معا معجزات السيد المسيح 

قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا»." (يو 20: 29).

دعونا نوضح أن المسيحية مبنية على الإيمان وليس العيان، وهناك مواضع كثيرة تثبت أن الإيمان أهم من العيان، وهذا يتضح من أفعال وتصرفات السيد المسيح.

فمثلا سنجد في إنجيل مرقس أية كاشفة جدا:

وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً، غَيْرَ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ فَشَفَاهُمْ." (مر 6: 5).

والسبب أنه:

"وَتَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ. وَصَارَ يَطُوفُ الْقُرَى الْمُحِيطَةَ يُعَلِّمُ." (مر 6: 6).

لن اقف كثيرا عند هذه الآية ولن أناقش جملة (لم يقدر) لأسباب منها أننا لابد أن نعود للنص الأصلي، ونقرأه في سياقه، ولأننا نتحدث عن معنى مجازي، ولكننا في نهاية الأمر نجد أنفسنا أمام نقطة فاصلة وضعها ودشنها المسيح بنفسه؛ وهي إيمانهم؛ فبدونه لن يقدر صنع معجزة، والدليل على كلامي وجود معجزات كثيرة داخل الكتاب المقدس كان الإيمان سببها وركيزتها ومحركها، وبالتبعية المعجزات التي حدثت بعد ذلك أي في العصور التالية أخذت نفس المنطق، وجاءت على نفس القياس.

اعرف ان هناك معجزات حدثت لأسباب أخرى، مثلا ليتمجد الرب أو ليظهر نفسه لقوم قلوبهم غليظة أو ليكسر خوفهم وليثقوا فيه أو لأنه تحنن عليهم؛ مثلما حدث في معجزة الخمس خبزات والسمكتين، ولكننا أيضا لا ننكر أن التلاميذ وقتها أيضا لم يكونوا على درجة كافية من الإيمان.

ففي معجزة إطعام الجموع قال المسيح لِفِيلُبُّسَ: «مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزًا لِيَأْكُلَ هؤُلاَءِ؟» وَإِنَّمَا قَالَ هذَا لِيَمْتَحِنَهُ، لأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ. أَجَابَهُ فِيلُبُّسُ: «لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا يَسِيرًا»

يتضح هنا ضعف إيمان فيلبس، وعندما ارتاب بطرس قَالَ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ، فَمُرْني أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَلَى الْمَاءِ».

29 فَقَالَ: «تَعَالَ». فَنَزَلَ بُطْرُسُ مِنَ السَّفِينَةِ وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ لِيَأْتِيَ إِلَى يَسُوعَ.

30 وَلكِنْ لَمَّا رَأَى الرِّيحَ شَدِيدَةً خَافَ. وَإِذِ ابْتَدَأَ يَغْرَقُ، صَرَخَ قِائِلًا: «يَا رَبُّ، نَجِّنِي!»

31 فَفِي الْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: «يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْت».

نخلص من ذلك أن  حدوث المعجزات مبني على الإيمان والإيمان نسبي؛ فما أؤمن به لا يؤمن به غيري، والعكس بالعكس.

كما أن المعجزة لها أسباب وحكمة وهدف وتوقيت، ولها جلالة وقدسية؛ فالمسيح بعد أي معجزة يصنعها كان يهرب مبتعدا عن الجموع، و كان يقول لا تخبروا أحدا.

ولكننا فقدنا البوصلة (فعملنا فرح على النت).

اتذكر  واقعة ظهور السيدة العذراء في  كنيسة الشهيد العظيم مار جرجس الروماني بالقوصية- أسيوط؛ كان الحدث بالنسبة للمسيحيين أمرا معتادا، ولو سألت أي مسيحي سيبتسم لك ويقول هذا أمر اعتدناه منذ عقود طويلة، ولكنه غريب على الآخر، وأنا هنا لا اقصد بالآخر المسلمين وحدهم فهناك طوائف مسيحية لا تؤمن بالشفاعة ولا بالقديسين.

حقيقة الأمر تم التعامل مع المعجزة الأخيرة بنوع من الانتصار أو إثبات الوجود؛ كنوع من الرد على استهداف المسيحيين بالأسلمة، والغريب، والمدهش؛ أن أصحاب هذه النظرة نسوا أو تناسوا أن المسيحيين أيضا يبشرون بالمسيحية ولديهم عابرون!! أنه الكيل بمكيالين أنه الهزل بعينه، وبالتالي أي محاولة تشكيك في أي معجزة للعذراء سنجد المسيحيين يستدعون ظهور السيدة العذراء أعلى كنيسة الزيتون منذ حوالي 50 عاما، وحقيقة الأمر هي المعجزة الوحيدة التي عليها شبه إجماع؛ وقتها كان الحدث جللا شاهده القاصي والداني؛ القريب والبعيد؛ الشرقي والغربي، وكتبت عنه الجرائد والمجلات ووكالات الأنباء.

ربما كان هناك سبب وهو النكسة؛ ربما كان هناك حكمة وهدفا ودلالة ، ولكن القياس على هذا النموذج طوال الوقت مخل ومغيب وقاصر؛ لأن الظروف مختلفة.

دعني أحكي لك واقعة شخصية، عندما ذهبت لأشاهد العذراء بأسيوط منذ حوالي ٢٠ عاما شاهدت نورا وصلبانا، ولم اشاهد العذراء، وغيري شاهدها؛ فهناك حكمة لا أعلمها.

دعونا نتحدث عن المعجزات بمنظور مغاير ونذهب للمخ البشري سنجد المخ به فصان، فص أيمن وفص أيسر  .. الفص الأيسر عبارة مخزن للمعلومات أما الفص الأيمن هو سر تقدم الأمم؛ فهو المسؤول عن الفن والإبداع، والفن لدينا حرام؛ فلن نتقدم.

داخل هذين الفصين توجد مساحات صامتة وهي  مساحات غير معروفة، تؤكد الكثير من الدراسات أنها كانت تعمل في الماضي، وحاليا معطلة ومن تعمل عنده هذه المناطق تحدث له طفرات، وهنا مربط الفرس؛ لان الطفرات مقصود بها القدرات الخارقة مثل التنبؤ، والتخاطر، و الطاقات الشديدة (الممسوس) و الحاسة السادسة .. إلخ.

ونحن شعب لدينا تاريخ موروث شعبي عظيم  في التعامل مع مثل هذه الأشياء (فلو حضرتك قاعد قدام شاشة الموبايل تقدر  تعتبر الأمور دي دجل وشعوذة، ومش بعيد تجدولها مع الزار وتحضير الأرواح وما إلى ذلك؛ أما لو أنت قاعد قدام التليفزيون هتبقى الأمور دي معجزات ربانية، ولو أنت قاعد في النص ستفسره بأنه طفرات).

يا صديقي الأمور نسبية، وما تراه مقدسا قد يراه غيرك عاديا والعكس بالعكس، فهون عليك؛ فعالم الروح مملوء بالأسرار، ومن يصل له صدقا لن يكون على شاكله هؤلاء.
-------------------------------
بقلم: مينا ناصف

مقالات اخرى للكاتب

نحن أمام





اعلان