09 - 05 - 2025

احتفالية حموم القط (ميشو) !

احتفالية حموم القط (ميشو) !

في زيارةٍ له لتهنئته بعيد الفطر، وجدتُه، يحمل ( طاجن سته )، وجلس كمن ( كبتْ عجينها ) مُتقمصا دور الحزن، الذي أداه بمهارة، حيث انطفأ بريقُ وجهه، ولمعت عيناه، كما لو كانت قد تحجرت في مآقيها الدموع، وانخفض صوتُه، حتي إن الناظر إليه يخالُه يعاني آلام الثكل، أو أنه فَقَدَ عزيزا عليه .

كان ياسر بارعا في أداء دور الحزن، الذي اضطر إلي تمثيله مراعاة لمشاعر صغيره عبد الله، الذي، ملأ البيت صياحا بعدما فقد قطه (ميشو) إحدي عينيه عقب تعرضه لـ(علقة سُخنة) من كلاب الحارة إثر خروجه للشارع يوما، يستطلع العالم من حوله، ويتخلص لو هنيهات من حبس الجدران، فكان ما كان !

لم يكد (ميشو) يُغادر باب البيت، حتي أحاطت به مجموعة من الكلاب الضالة إحاطة السوار بالمعصم، وأوسعته عضا وضربا، فلاذ بالمواء عساه أن يجد من مُخلِص .

سمع عبدالله صراخ (ميشو)، فارتعدت فرائصه، وخرج مسرعا يتحسس خبره، فإذا به يجده مضرجا في دمائه، لا تقوي رجلاه علي حمله .

ضرب عبدالله صدره بكفيه الصغيرين، وحمل القط إلي البيت، الذي وقف أفرادُه علي قدم وساق لحمومه، وتضميد جروحه، وإطعامه وجبة من اللنشون والحليب؛ (ترُم عظمه)، وتخفف عنه آلام (العلقة السُخنة)، التي فقد بسببها إحدي عينيه .

برع ياسر في أداء دور الحزن مواساة لابنه عبد الله، فكان كلما تقابلت عينه بعين ابنه تظاهر بالبكاء، الذي فاق فيه بكاء الخنساء علي أخيها صخر، وما إن ينصرف عبد الله إلي بعض شئونه، حتي يعودَ أدراجه، ويضرب كفا بكف، ويتساءل باستنكار : (شغلانة .. هانلاقيها من القط ولا من العيال ؟) .

كان ياسر كلما جلس ابنُه إلي جواره وبحجره قطه المهيض، يُمرر كفه بلطف علي رأس القط وظهره، فيُغمض القط عينيه لشعوره بالأمان، وبمجرد أن يراه بمفرده يطارده بعصاه، خاصة أن مداواته وإطعامه أرهقاه من أمره عسرا .

كان أثناء تلك المطاردة، يتوجس خيفة أن يراه عبد الله فيصبح في خبر كان !

في هذا الجو من الصراع والمداراة عاش ياسر عدة أيام، مرت عليه كشهور أو سنين، حتي تعافي جسد القط، إلا أن إحدي عينيه لم يعد لها بصيصها، فتوافد علي ياسر الزوار لمواساته ومواساة ابنه المكلوم !

ولياسر الشاعر مواقفُ عدة تدمغ بخفة الظل، الذي لم ينافسه فيه مُنافِس !

فحدث أنه في إحدي الإجازات الصيفية، خرج هو ومجموعة من أصدقائه للعمل بمعارض (الريان)؛ لتوفير مصاريف السنة الدراسية، ونظرا لأنه أكبر المجموعة سنا، وأحسنهم تصرفا، اختير أميرا للجماعة - طبعا ليس تنظيما سياسيا - ولكنه كان (ريس أنفار) يُدبر شؤنهم، ويوزع عليهم مهام العمل بالمعرض، ويشرف علي نفقات الطعام والشراب !

وجدَ ياسر أن بقاءنا جميعا بصالة العرض، سيُدر علينا دخلا زهيدا، ففتش عن قنوات جديدة للدخل، تفي بمتطلبات الإنفاق والتوفير .

بعد جولة في أروقة المعرض وجدَ الحل في (العِتالة)، والتي تعتمد علي الشحن والتفريغ، حيث يقوم (العتَّال) بتحميل بضائع المودعين لسياراتهم الخاصة نظير (البقشيش)، الذي نتقاسمه سويا، كما يقوم أيضا بتنزيل البضائع الواردة للمعرض مقابل عمولة مُجزية نتقاسمها أيضا .

أسالتْ فكرةُ العتالة لُعاب ياسر، ولكنه لا يصلح لها لضآلة جسمه، وقصر قامته، فآب راجعا، يفتشُ عمن يصلح لهذه المهمة الشاقة، وهو يدور حولنا كما يدور أحد السراة بسوق النخاسة بحثا عن غلام يخدمه، فوجد أن أنسب اثنين هما رجب (كاكة)، وعلي (وزة)، فأخذ يقنعهما بالفكرة، ويُعدد مزاياها، وما ستُدره عليهما من دخل، ولم يتركهما حتي أذعنا لأمره .

وافق رجب وعليُّ علي العمل بالعتالة، فتمرغوا، وتمرغنا معهم في نعيم (البقشيش) بفضل ذكاء عمنا ياسر (ريس الأنفار) .

وبقي هو، ومن لا حول لهم ولا قوة ممن كانوا جلدا علي عظم، للعمل بصالة العرض . كنتُ أحدَ أفراد هذا الفريق، الذي ضم (مسعد)، و (شهوان)، والذي كان اسمه مثارا للجدل، ومحلا لاستفسار كل من سمعه، فكان يتخفي منه بـ(كُنية) أبي عبد الرحمن، ولكنه كان كالمستجير من الرمضاء بالنار، إذ أثارت الكُنية عجبَ الناس أيضا، وأخذوا يتساءلون كيف لهذا الشاب اليافع أن يكون أبا ؟! .

أما مُسعد، فكانت حكايته حكاية، فرغم أنه كان وسيما، ذا عينين خضراوين، وعود مفتول، إلا أنه كان كسولا، يفوق في كسله حيوان (الباندا)، فلا يترك خيمة الاستراحة إلا إذا كان زبون الصالة إحدي سيدات الأحياء الراقية، اللائي يمتزن بـ(البارفانات) النفاذة، واللسان(المعوج)، فيدب الدم في عروق مسعد، ويخرج للصالة، عساه أن يظفر بإرناءة لحظ، أو غمزة رمش، أو بسمة ثغر، أو لمسة يد، تُرطب عليه حرارة الصيف !

كنتُ وأنا (الفهلوي) أعلمُ أن مسعد – تماما كشهوان ورجب – ينفر من اسمه، ولا يحب أن يناديه به أحدٌ أمام الناس، باعتباره اسما قديما، لا يتناسب مع جمال وجهه، واستقامة عوده، اللذين كانا كفيلين باختياره نجما سينمائيا لو التقي بأحد مُكتشفي النجوم، فتعمدتُ أنْ أناديه به أمام رواد المعرض من السيدات مع الضغط علي حرف الميم المضمومة، فأُثبتُ واوا فأقول : (مووووووسعد)، فكان يجن جنونه، وتثور ثورته، وبمجرد أن ينصرف الزبون أو الزبونة من صالة العرض، يهرع إلي استراحة  ياسر (ريس الأنفار)، يشكوني له فيمتص ياسر غضبه، ويوهمه بأنه يُعنفني وهو يضرب كفا بكف متسائلا : (ها نلاقيها من شهوان ولا من مسعد، ولَّا من رجب .. أرجوك ياعم صبري، (كشْكشها ما تفردهاش)، واخطف الميم في النطق ولا تُغضِب مسعد)، أو قوله يا تامر، أو يا هيثم أو يا وائل، ثم يلتفت لمُسعد متسائلا : مبسوط كده يا موووووسعد؟ مع الضغط علي الميم وإشباع الضم، فنضحك جميعا .

ياسر الشاعر .. مواهب جمة، وذكاء مُفرط، وفصاحة لسان، كانت ترشحه للتعليق علي مباريات كرة القدم، فيستمتع الجمهور بقفشاته الظريفة، وحضور ذهنه، وخفة ظله التي، فاقت خفة ظل الفنان سمير غانم، وهو يقول الكورة مع أحمد ..أحمد معاه الكورة !
--------------------------------
بقلم: صبري الموجي


مقالات اخرى للكاتب

ثورة العميد!