اليوم تحل الذكري الـ71 لثورة 23 يوليو المجيدة، والتي ظلت عنوانا للتحرر الوطني، وبابا واسعًا لثورات المظلومين والمقهورين في العالم، ورغم مرور تلك السنوات الطويلة، وربما أجيال جديدة قد لا يعرفون عنها شيئا، إلا أن من هم في مراحل سنية متقدمة يدركون تاريخها، وأهميتها في صناعة مصر كدولة لها إسمها ومكانتها في العالم، بالرغم من كل العثرات التي واجهت تحقيق أهدافها.
ولاشك أن علاقة ثورة 23 يوليو بالمثقفين لها خصوصية شديدة، رصدها كثيرون في كتاباتهم ومذكراتهم، لأنها أدركت منذ البداية أهمية بناء جسور معهم، لتغيير الصورة الذهنية لدى مخاوف البعض، خصوصًا فيما يتعلق بالديمقراطية، ولدعم توجهات الثورة نحو الفقراء، والمطحونين في "الغيطان والأبعديات" والمصانع، ولدعم استقلال الوطن.
ولهذا حرصت الثورة على بناء جسور تعاون والتأسيس لعمل ثقاقي مؤسسي في الدولة المصرية، مازال هو ما يتم البناء عليه حتى الآن، وتطويره حتى اللحظة، وتعظيم تلك الأفكار التي نبتت مع سنوات الثورة، وبالتالي لم تأخذ الثورة موقفا عدائيًا من المثقفين، أو تتجاهلهم، وإن حصلت صدامات في مراحل مختلفة، واعتقالات، إلا أن توافق الأهداف كان سببًا في حدوث أشكال من التوافق والتعاون بين الثورة والمثقفين.
وذكر الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة خلال سنوات الثورة في مذكراته "أراد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أن تصبح الثقافة والفنون الراقية فى متناول الجماهير العريضة"، وهو ما توافق مع رؤى المثقفين في مصر أنذاك.
بالفعل لم يكن هناك موقف عدائي بين 23 يوليو والمثقفين، وإنتاجهم الأدبي، حتى وإن كانوا مختلفين معها، وإنتاج كاتبنا العظيم نجيب محفوظ، شاهد على ذلك، وكانت داعمة لتحقيق نهضة ثقافية، تشهد لها الصروح الثقافية التي قامت عليها خطط التطوير في المسرح والسينما والثقافة الجماهرية، بل في المكتبات العامة.
ونشير هنا إلى شهادة مثقف وعالم بارع في الإقتصاد، فيما كتبه العظيم الدكتور جلال أمين في كتابيه "ماذا علمتني الحياة" و"مكتوب على الجبين"، "بدأ شعورى نحو عبدالناصر يتغير فى 1955 مع ظهور بوادر شىء جديد جاد كان يسمى الحياد الإيجابى، والذى اقترن بذهاب عبدالناصر إلى مؤتمر باندونج، وعقد صفقة الأسلحة التشيكية، وبلغ حماسى، وحماس جيلى لعبدالناصر منتهاه بسماعنا تأميم قناة السويس فى 1956 والتي تعادل فرحتنا بقيام الثورة".
وقال "إن ما كان يحدث فى مصر اقتصاديًا واجتماعيًا - بصرف النظر عن مشكلة الديمقراطية - منذ 1956 وحتى 1965 كان أفضل ما مر فى تاريخ القرن على الأقل، وحياتنا اليومية كانت تعكس هذا التطور الرائع فى حياة مصر... ولقد حدث أوسع حراك اجتماعى سمح لأعداد غفيرة من الطبقات الدنيا، ظلت محرومة قرونًا طويلة، بالترقى فى جودة الحياة ومستويات المعيشة والصعود إلى سطح الحياة، والانتفاع بثمرات التنمية والتعليم والتقدم".
إذن كانت "يوليو – عبد الناصر"، تدرك دور الثقافة والمثقف، ونظرته نحو المجتمع، فقد حرصت على مخاطبة وجدانه وفكره وإنحيازاته، دون أن تُغرد بعيدًا عن همومه، لتكسب وتكتسب قوى ناعمة تدعم قراراتها الثورية.
ولاشك أن التقاط (يوليو عبد الناصر) للإنطلاق نحو شحذ همم المصرين والمثقين منهم، بمناصرة الفقراء والإنطلاق بمصر نحو زعامة العالم العربي بإبراز مفهوم العروبة وتعبئة الجماهير، وزرع الأمل فيهم، كل ذلك وغيره صب في تجميع المثقفين وضخ المزيد من المنتوج الثقافي وفي كل فنون الإبداع من موسيقى وشعر ورواية ومسرح وسينما وغناء، وفنون تشكيلية، وغير ذلك، لتصبح تلك السنوات الأكثر تألقًا في في دور المثقف والثقافة.
قراءة التاريخ من جديد، وإنعكاسات 23 يوليو .. نقطة إنطلاق لبناء جديد بين الدولة والثقافة والمثقفين، وأي موقف عدائي، أو تجاهل أو تهميش يفقد دولتنا في كل مراحلها قوى ناعمة متنوعة .. ومن المهم إستعادتها، ببناء جديد وبعقلية حوارية تتسم بالحرية تتبادل فيها الأراء، دون وصاية أو تعالٍ.
---------------------------------
بقلم: محمود الحضري