25 - 05 - 2025

ميلان كونديرا .. دهشة الاكتشاف والإبصار

ميلان كونديرا .. دهشة الاكتشاف والإبصار

ميلان كونديرا روائي فرنسي من أصول تشيكية وهو من أشهر الروائيين اليساريين، من مواليد 1929، حصل على جائزة الاندبندت لأدب الخيال الأجنبي فى العام 1991،  له أربعة عشرة عملاً ومن أهم مؤلفاته : غراميات مرحة 1963 ، المزحة 1965 ، كتاب الضحك والنسيان 1978 ، الخلود 1988 ، البُطْءُ ، كائن لا تحتمل خفته  التي جعلت منه كاتباً عالمياً معروفاً لما فيها من تأملات فلسفية ، خاصةً فكرة العود الأبدي لنيتشه ، من كتبه أيضاً: الحياة فى مكان آخر، الجهل ، الهوية ، حفلة التفاهة ، الستارة ، الوصايا المغدورة ، فالس الوداع ؛ وهذه الرواية مبنية على فن العمارة الأدبية.

أهمية ميلان ككاتب عالمي 

ميلان كونديرا، الكاتب الذي تقرأ له وأنت تحت تأثير الدهشة والاعجاب ، فقد بدأ بمجموعته القصصية الأولى "غراميات مضحكة 1963 ، والتي عُرٍف كونديرا من خلالها ككاتب هام فهو يريد للرواية أن تقدم معرفة ذات شقين متكاملين: - أولهما : المعرفة العلمية بالموضوع الذي تهدف الرواية إلى إنارته - ثانيهما : الخبرة والإحاطة بفنيات هذا الجنس الأدبي وطبيعته ومختلف أدواره وتطوراته. ويطرح فلسفته من خلال أسئلة ساذجة فهي التي تبقى بدون جواب وبالتالي هي التي تشير إلى حدود الإمكانات البشرية وهي التي ترسم وجودنا . 

لم يرسم كونديرا خطاً فاصلاً بين الخير والشر فى روايته لأنه يرى أن "روح الرواية هى روح التعقيد" . فالرواية الناجحة هي التي تقول لنا " أن الأشياء أكثر تعقيداً مما نظن ", وهي الرواية التي لا تُستَنفذ إمكاناتها وتظل قادرة على الحفاظ على روح " اللايقين " الذي يحفظ لها تمايزها.

لماذا الكتابة عن كونديرا؟ 

كونديرا الذي أحب الموسيقى عن والده لودوفيك كونديرا عالِم الموسيقى ورئيس جامعة جانكيك للآداب والموسيقى ببرنو، عزف ميلان على البيانو ؛ ثُمَّ صار يعزف بكتابته فى نظم مشاعر شخوص رواياته، يُعَرِّفنا كونديرا فى كتاباته عن هُوّيتِنا ، هويتنا النفسية، أي هوية المرء أمام ذاته وأمام الآخرين من حوله،  إنّه : يُشًرِّحُ النفس الإنسانية بمشرطٍ شديد الدقة والتفاصيل وبعناية الحريص على الوصول بأدواته لكل ما هو عميق وخفي ومثير .

مع اتسام أسلوب كونديرا بالفكاهة والذكاء والعمق استطاع بقدرة هذا الأسلوب تحويل الآلام إلى مادة دسمة للسخرية .

إنّه بتجسر عبارته استطاع أن يجعلنا فى أروع صور للتصًوّر  .

فعل الإنارة عند كونديرا .. إنه  مغامرة المعرفة ، المعرفة المعقدة ، التي تقودنا إلى مزيد من " التأمل الاستجوابي " الذي يستجوب السؤال الوجودي ، محاولاً الإجابة عليه فى فصول منسقة بمعمار حساس وموزون برهافة موسيقية .. يفحص الوجود بإمكانات إنسانية فى حقل إحتمالات واسع ، فالشخصيات لا تملك سيرة ذاتية إنها مجرد اختيارات إن لم نقُل اختبارات متكررة لـ " أنا تجريبي "  هكذا يرى كونديرا .. هكذا فعل كونديرا بشخوص روايته  "فالس الوداع" .. فى هذه الرواية  أنت تخطو بين عباراته كما تخطو فوق جسر عريشي منحني التصاعد، جنًباته مُزًيًنة بتسلسل موسيقى للكلمات التى تُصدِي بالإنارة والاستبصار رويداً  رويداً، يضع كونديرا ذهنك على أول هذا الجسر فتبدأ الخطوات وفى صعودك المُتًأريح تدخل عمق الجسر وتستلذُ  الدهشة تلو الأخرى ، يسطر فى " فالس الوداع " بهذة الجملة الترادفية المُنًمَقة بدايةً ونهاية ً :" البلدة المنتجع الصحي الصغيرة"  لم يُلَقِن مشهداً مباشراً لعين القاريء، إنّما بادَرَ بجذب إدراك العين للمعلومة فى هذه العبارة المشهدية للقرية . 

ثُمَّ ها هو كونديرا يبني روايته بأسلوبٍ معماري فريد الطراز، تأثر به من خلال الكاتب موزيل ؛ البناء الذي يبدأ بجملة قصيرة تُلخّص الفكرة وتقودُنا لِتَصِف كل حَدَث بأروع تصوّر للشخصية ودوافعها وهدفها وصراعاتها وتحولاتها .. بحيث نكاد ندخل مع شخوصه فى هيكل البناء وأُطر تدرجه وتصاعده، ثُمَّ الوصول إلى نهايته، عند الطرف الآخر للجسر، لتنتهي بنا الرحلة (رحلة الإبصار) تاركةً فينا الدهشة وأثر العزف .

إنَّ كونديرا أعطى أرواحنا وجبةً فالسية أنارت أعماقنا، وأثارت إدراكَنا بكل حميمية المعرفة والتذوق والتسامي ، فى جُمَلهِ البنائية أخذَنا من هنا : " البلدة المنتجع الصحي الصغيرة "," وهناك نسوة عقيمات حللن النبع على أمل الإخصاب " , " يوجد حفنة رجال من بين المرضى "، " وقد ولدت روزينا فى البلدة المنتجع .. وكانت دوماً تتساءل إن كان بمقدورها أن تهرب من ذلك العش المزدحم بالنساء" ، " قالت روزينا " أنا أعرف رقم صالة الرقص التي يعزف فيها، سأتصل به هناك " , "كان الحوار مفزعاً، لقد انزعج لحظة أن تَعَرَّفَ على صوتها، دائماً كان يخشى النساء، لكنهن لم يكن يصدقنه حين يبلغهن بهذا، مفضلات أن يعتبرن أعترافه هذا نوعاً من مزحة زير النساء"، "أدرك كليما أن صوتها هو صوت القدر الذي يرتعد منه منذ سنوات" , , " عرف بأن الحمل عاصفة سوف تنسفه فى أي وقت وبأي مكان"، " بعد كل علاقة غرامية كان يرتقب بخوف عواقب وخيمة". 

يخطو كونديرا فوق جسره العريشي القوسي محاطاً بإنسيابية السرد والوصف والتحليل النفسي للشخصيات، " كان يكره الهوائيات، وكان مقتنعاً بأنه لو تهدد زواجه أي شيء، فذلك بسبب هذه الملامس الحوامة  اللعينة" . ,  " لمح وجهه، ينبعث منه الشك، الكآبة، والدعابة المريضة "، " فالغيرة تلقي ببقعة ضوء ضيق يسبح كل الرجال فى كتلة معتمة خلفها". 

"وجدت فى مكتبه قصاصة من صحيفة ممزقة عليها تاريخ مدون فى عجلة بخط يده"، "رغم الجمال الواضح لمسز كليما .. كانت ترتعد من عالم النساء الخائن ، فلماذا لا تجد العزاء فى عالم الرجال"، " قاطعته فجأة ، لقد غيرت رأيي . ستكون جريمة ، يمكنك أن تفعل شيئا مثل هذا . لكن أنا لا " ، " بدا لجاكوب انطباع بأن حياة شخص ما فى مأزق"، " فتحت روزينا الأنبوب أخرجت حبة، وبسرعة بلعتها"، " كانت النغمات الأولى المدوية لبوق كليما الذي يعشقه قد جعلته يحس أنه بمفرده على المسرح" . " أحس أنه يعزف بطريقة بائسة "، " بدا ذلك حينها غريبا بدرجة طفيفة أن يمنحه سكريتا السم فى شكل قرص مميكن"، " أمسك الطبيب برسخ روزينا فى محاولة يائسة كي يحس نبضها " . .

إن لم يأخذك دين روحك وعقلك إلى العيش بطريقة تسمو فيها الإنسانية على الطغيان المجتمعي والسياسي والعقائدي، فليس ثمة عقل للّروح أو نسق قيمي يُجَنِّبك النزوق فى مأزق الخلاص. 

" الرواية التي لا تكشف جزءاً مما لا يزال غامضاً أو مجهولاً "رواية لا أخلاقية " .......... فالس الوداع .. فالس غرق فى الدموع . 

آخر أعمال كونديرا " حفلة التفاهة " تعد من أهم مؤلفاته , إذ تُعَبِّر عن خلاصة أفكاره و مذهبه ونتاج ما توصَّل إليه من فلسفة، يحاول أن يؤكد فيها أن العبثية هي الصورة الحقيقية لكل شيء". 
-------------------------------
بقلم: نجلاء مُحَرَّم

 

مقالات اخرى للكاتب

ميلان كونديرا .. دهشة الاكتشاف والإبصار