25 - 05 - 2025

علي عبد العظيم .. وداعا أستاذ الأجيال !

علي عبد العظيم .. وداعا أستاذ الأجيال !

لم تترُكه الحياة ينعم بدفء الأسرة، وعطفِ الأب زمنا طويلا، إذ سرعان ما رحل أبوه تاركا وراءه زوجة فقيرة، لم تنل أيّ قسطٍ من التعليم، لكنها كانت رجُلا بما تحملُه الكلمةُ من معاني الصبر والجلد، وتحمُلِ آلام الجوع والعطش؛ لتوفر لصغارها كِسرة الخبز وشربة الماء .

بثبات يحسُدها عليه الرجال، نادت الحاجة (سنية) ابنها الأكبر (علي)، بعدما جففت دموع عينيها، التي رسمت علي وجنتيها خطين كقضيبي السكة الحديد، وقالت : مات أبوك يا علي، وترك لنا حملا تنوء بحمله الرجال، فلم يترُك لنا تركة ولا مالا، فخبرني ماذا ستصنع مع أخويك الصغيرين، وأمك، التي لا تملك من حُطام الدنيا سوي عافية بدنها، ولو كان بمقدورها  لباعته من أجلك وأخويك الصغيرين ؟ !

كان حديثُ أمِّه كصدمة كهربية، نبهته إلي ما يتهددُه من أخطار، فمسح دموع عينيه، وبجوانحه صرخة، لو أطلقها لفراق والده، ما وسعها براحُ الدنيا الواسع، إذ إن الأب بالنسبة لكلِّ ابن هو حصنٌ آمن، وقرارٌ مكين، يأوي إليه؛ ليتفادي أعاصير الحياة، وأعباءها، وقال لأمه أنا طوعُ أمرك ورهنُ بنانك، فانظري ماذا تأمربن ؟

كان الدرسُ قاسيا علي (عليٍّ)، إذ إنه مازال طفلا، لا يقوي علي التصدي لشبح الفقر والجوع، الذي وجه مخالبه وكشر علي أنيابه؛ لينهش هذه الأسرة الفقيرة، فتنازعته وسواسُ الفكر، وناداه في روعه مُناد : يجب أن تترك التعليم، وتعملَ أجيرا في غيطان الأثرياء؛ لتوفر لأمك وأخويك لُقمة العيش .

لم يستسلم لهذا الهاجس، إذ أسكته هاجسٌ آخر استراحت له نفسه، واطمأن له فؤاده، يقول : ما لم يُدرك كله لا يُترك جُله، فامسك(العصا من النصف)، وبدلا من التعلق بحبال التعليم الثانوي الطويلة، والتي لا طاقة لك ولأسرتك بها، ادخل مدرسة المعلمين؛ لتخرج منها مدرسا، تُحصِل راتبا يساعدكم في التصدي لأعباء الحياة !

استراح (علي) لهذا القرار، وجعله نُصب عينيه، فلم يغب عن ناظريه لحظة، أو يحد هو عنه قيدَ أُنملة،  فاعتاد أن يذهب إلي المدرسة صباحا ليتلقي دروسه، وفي المساء، يجمع الأمَّ بأولادها الثلاثة ضوءُ لمبة (الجاز) حول ربطة الخوص لعمل ضفائر، تُصنع منها (مَقاطِف) جمع الخضر والفاكهة؛ ليشتروا بثمنها طعاما، يهون عليهم مرارة العيش !

تمضي الأيام ببطء، وترسم قسوتُها علي صفحة حياة (علي) معاني الرجولة، والقوة والثبات، وكلما مضي عامٌ توَّجه (علي) بالنجاح، استقام عودُ أمه، الذي حناه الزمن والفقرُ ، حتي تخرج (علي) في مدرسة المعلمين، فعاد ظهر أمه صلبا قويا، واشتد عودها بعد ضعف وانكسار .

اشتغل(علي) مُدرسا للمرحلة الابتدائية، يؤدي عمله بشغف وحب؛ ليتقاضي راتبه الشهري فيدفعه لأمه لتُحسنَ تدبيره في نفقات المعيشة، ومتطلبات أخويه الصغيرين، اللذين كان علي أبا لهما بمعني الكلمة .

واصلَ (علي)عمله بهمة لا تعرف الكلل، وإرادة لا تعرف اللين، وعبقرية صنعت منه مدرسا، ثم مديرا لمدرسة إمياي الابتدائية القديمة، يُشار إليه بالبنان بعدما حققت مدرستُه مراكز متقدمة علي مستوي محافظة القليوبية .

رحلةُ كفاح طويلة، لعق (علي)خلالها الصبر، فكان في الصباح مُدرسا، ومن الظهيرة لغطسة الشمس بين الدروس الخصوصية لتحسين دخله وأسرته.

كان عائد الدروس قليلا، فكان إمَّا (مَقطف) من الخضر أو الفاكهة، أو علبة بها عدة بيضات دجاج، يدفعها لأمه لتُطِعمَ أخويه أو تُقايض به سلعة أخري، يحتاجها البيت .

نعم كانت الأيام قاسية، لكنها خلقتْ منه رجلا بمعني الكلمة، امتاز بالحزم والصلابة، إلي جانب العطف واللين، فجعل لكلِّ مقام مقالا، ولكل حدث حديثا .

كانتّ( واقعة) المُقصر من تلاميذه سودة هو ( واللي خلفوه)، في حين كان شديد الحدب، والعطف علي المتميزين، فكان رحمه الله نسيجَ وحده إدارة وتدريسا، فصنع اسما جعله رائدا من رواد التعليم بإدارة طوخ التعليمية .

حبا اللهُ الفقيد علي عبد العظيم - رحمه الله - ذكاء ونبوغا، جعله أولَ دفعته علي الدوام، وإلي جانب نبوغه الدراسي، تميَّز بنبوغه العملي، وحبِه لمهنته مما أهله ليترقي في حياته العملية سريعا، حتي وصل إلي درجة مدير إدارة في سن صغيرة، وكان بإمكانه أن يتبوأ مناصب أعلي، لكنَّه زهدَ فيها؛ لإيمانه بأنَّ مساعدة أمه في تربية أخويه،  ورعاية أسرته وأبنائه بعد ذلك أثمن وأغلي من أي منصب .

كان الفقيد شعلة نشاط، سريع الحركة، خفيف الظل - ولخفة ظله مواقفُ ربما ليس هذا وقتها لقرب رحيله - !

رحم الله الفقيد، الذي ترك دنيا الناس - بعد رحلة حافلة بالعطاء - إلي جناتٍ ونهر عند مليكٍ مقتدر - بإذن الله - جزاء جهوده في التربية والتعليم، التي جعلته بحقٍ أستاذَ الأجيال .
--------------------------------
بقلم: صبري الموجي*
* مدير تحرير الأهرام


مقالات اخرى للكاتب

كن جبانًا ليسلم قفاك!