بينما كانت فرقة الكورال تصدح بأغانيها على مسرح النادى، كانت تجلس الأم والخالة والجدة في حالة اندماج تام مع الأغانى التي تحفظنها عن ظهر قلب .. تشابه الملامح والقسمات بينهن لم تكن لتخطؤه أي عين عابرة .. ولم تكن وحدها القاسم المشترك الذى يجمعهن إذ جاءت حركات الأيادى المصفقة والأكتاف المتمايلة برفق وارتفاع الأصوات مرددة مقطعا بعينه من أغنية بدت أثيرة .. عكس كل ذلك بشكل لافت مدى الإنسجام الروحى الذى يجمعهن والذى يعكس إما رغبة في القبض على لحظات الفرح والتي لاتسير حياتهن بدونها، أو هي محاولة لتجاوز سخافات الحياة باقتناص لحظات بهجة من بين براثنها القاسية الشرسة.
مشهد الثلاثى المبهج لم يكن يكدره سوى مشهد آخر لطفل لم يتجاوز السبعة أعوام يجلس ملتصقا بإحداهن .. يبدو عليه الملل بشكل واضح، حركة مفرطة، نظرات خاطفة سريعة وكثيرة بين الأم والجدة ..علامات الضيق وعدم الإنسجام والنفور من كل مايحدث من حوله عكستها كل تحركاته .. وإن لم تفعل تأثيرها في لفت أنظار أقرب الناس إليه، إزداد سخطه وبدأ احتجاجا أكثر وضوحا، إنتبهت الخالة فأسرعت بإعطائه ""الموبايل " ليلتقطه بفرحة وينفصل عن المشهد الذى بدا سخيفا في نظره.
لم تدم فرحته كثيرا، فبعد دقائق قليلة خطفت الخالة الجهاز فجأة ودون سابق إنذار لتسجل مقطعا من أغنية تبدو أنها من أغانيها المحببة .. انزعج الصغير وأرسل نظراته للأم متوسلا، تجاهلتها وهى تصفق بكل انسجام مع الغناء .. لم يتردد في الذهاب إليها، همس بكلمات في أذنها فتحولت ملامحها فجأة لضيق عارم، عنفته ، لكزته، حاول الاحتجاج بالصراخ، وسرعان ما أدرك أن حيلته ذهبت أدراج رياح بعدما ابتلعتها الأصوات الصاخبة المهيمنة على آذان وعقول الجميع.
تدفقت الدموع غزيرة في صمت وبلا توقف، أخذ يبكى بحرقة .. منكفئا على وجهه عل إحداهن تلتفت إليه وتشفق على حاله، لكن أحدا لم يكترث أو يعبأ! ظلت أيادى القريبات الثلاثة تصفق وتعلو أصواتهن بالغناء وتزداد ملامحن ابتهاجا، بينما تنهمر دموع الصغير بلا توقف وبلا صوت.
ظل على تلك الحال لما يقرب من ساعة، لم تتخللها سوى طبطبة سريعة من الخالة، ولمسة أسرع من الجدة ونظرات نارية متوعدة من الأم تتبعها أحيانا لكزة أو شدة شعر يزداد معها حزن الصغير وتنهمر دموعه بشكل أكثر غزارة.
مشهد كاف أن يعكر عليك بهجة اللحظة ويصبح من الصعب عليك التماهى مع الأغانى مهما كانت درجة عشقك وارتباطك بها، يتضاءل كل ذلك أمام دموع صغير ونوبة بكائه الحارقة الصامتة وعقله العاجز عن الخروج من حالة الحزن الخانقة التي طوقته بلا رحمة.
ترى هل يمكن أن ينسى الصغير هذا المشهد فيما بعد؟.. هل يمكن أن تتجاوز نفسه تلك اللحظات؟ هل يمكن أن تمحى من ذاكرته حالة الألم تلك التي عاشها، بينما يرى أقرب الناس له غير عابئة بمشاعره ولا مكترثة لحزنه ولا مهونة لألمه! بل وغاضة الطرف عن كل ذلك لتبدو في أقصى حالات السعادة والسرور والبهجة لامبالية بحجم مايعانيه من حزن حتى وإن بدا في نظرهن لأسباب واهية!!
لن تشفع لهن بالتأكيد المبررات التي رددتها إحداهن وإتهام الصغير "بالزن" و"الإزعاج" وغيرها من الاتهامات التي ألصقتها به في محاولة للتبرير، بعدما تدخلت إحدى الحاضرات لتلفت نظرهن لمعاناة الصغير، كلمات سريعة مقتضبة ألقتها الجدة "مش عايز يلعب مع إخواته .. مش عارفين عايز إيه! لم تكد تكملها ببرود لافت حتى عادت وبكل حماس لتشارك ابنتيها الغناء والتصفيق والضحك والسعادة.
نقدر بالطبع مدى حاجة كل منا لتلك اللحظات .. ونقبض عليها بكل قوتنا عندما تأتينا، ندرك أن متاعب الحياة أثقلت كواهلنا جميعا وصارت كالجبال وربما أشد ثقلا .. نعرف أن لحظات البهجة تأتينا فجأة وسيئ الحظ من لا يغتنمها .. لكن علينا أن ننتبه حتى ونحن ننعم بتلك اللحظات ألا تكون سعادتنا تلك على حساب المصدر الأهم لسعادتنا وبهجتنا وراحتنا وكل أملنا في الحياة، علينا ألا نسيء دون أن ندرى لهم .. نجرح مشاعرهم، نؤلمهم، نحفر في وجدانهم مشاهد حزينة من الصعب تجاوزها أو محوها .. تكون خصما من سعادتهم وراحتهم وشعورهم بالأمان والثقة ، ندفع ثمنها غاليا فيما بعد دون أن ندرى حجم ما ارتكبناه من خطأ في حقوقهم .. علينا ألا نستسهل فنسرع بإلهائهم بأجهزة الموبايل والآيباد وغيرها لننعم بالراحة ونتحاشى شقاوتهم و"زنهم" وطلباتهم التي لا تنتهي ، أو لنقضى في المقابل وقتا أطول للتحدث إلى الصديقات على الهاتف أو نسبح مع الآخرين في العالم الإفتراضي، متناسين مدى حاجة صغارنا لتواصلنا معهم في العالم الواقعى الأكثر وأجدى نفعا ومصداقية.
نعرف أن عقول الأطفال عنيدة، ونفوسهم متقلبة ومزاجهم متغير، وأهواءهم متبدلة بسرعة يصعب أحيانا تداركها .. ويصعب أحيانا علينا فهمهم .. والأهم أنه من الصعب جدا إرضاؤهم على الأقل لوقت طويل.
لكن دورنا ألا نكف عن المحاولة لسبر أغوار تلك النفوس البريئة الماكرة، الحنون القاسية، الراضية المتمردة، الضاحكة دوما والباكية، الأنانية والمتفانية، الكريمة والبخيلة .. لكنها في كل الأحوال هي وحدها القادرة على سلب عقولنا وقلوبنا والنفاذ لأعماق الروح لتصنع بأيديها الصغيرة البارعة كل خيوط البهجة والسعادة والراحة.
قليل من الحكمة مطلوبة في كل مواقفنا مع الصغار حتى لو بدت أفعالهم غريبة محرجة مستفزة أو حتى خارجة عن السيطرة، علينا أن نبحث دوما عما وراء تلك الأفعال لانتسرع في ردود أفعال عنيفة أو غير مبالية أو غير متفهمة لما يفعله هؤلاء الصغار، لأنها فضلا عن أنها لن تحقق الهدف المرجو منها ولن تكبح جماح الطفل الغاضب ولا تزيد الموقف إلا تعقيدا وتأزيما، فإنها أيضا ستكون خصما من رصيد محبتهم وتعلقهم وثقتهم بنا، والأخطر سيكون خصما من سلامتهم النفسية.
ندرك أن علينا واجبا ثقيلا نحمله بالقطع دون شعور بالعبء لأننا نقدمه لملوك قلوبنا بلا منازع، ندفع ثمن سعادتهم من أعمارنا وراحتنا وهدوئنا وبهجتنا عن طيب خاطر ودون انتظار لأى مقابل.
----------------------------------
بقلم: هالة فؤاد