تبدو "الفهلوة" كلمة مطاطية المعنى ..البعض يراها دليلا على عمق الخبرة والمعرفة ويراها آخرون دليلا على الفطنة وحسن التصرف ويراها فريق ثالث ترجمة للتحايل والنصب واللعب بالتلات ورقات.
أما فى مجمع المعانى الجامع فتعريف الفهلوى بأنه الشخص الماهر البارع الشاطر القادر على التكيف مع متغيرات المجتمع
ويرجع أصل الفهلوية للغة الفارسية القديمة وشغلت الفهلوة والفهلوية تفكير الكثيرين. وتوقف كثيرون أيضا عند الفهلوية بين حائر في طبيعة شخصيتهم، وبين منبهر بسمات شخصيتهم وبراعتهم في الوصول لهدفهم، وبين رافض غاضب مستهجن لحيلهم ومكرهم وفنون خداعهم وقدرتهم على انتزاع مكاسب ليست من حقهم.
واتفق الجميع على أن هناك سمات عامة تحكم تلك الشخصيات الفهلوية، أبرزها النفاق والغش والتحايل على القانون والتقاليد والأعراف للوصول للهدف، إضافة إلى ميلهم للصخب والضوضاء لإثبات الحضور، كما أنهم مثيرى التوتر يظهرون فجأة بضجيج متعمد ليحصلوا على مكاسب سريعة وبدون وجه حق .. بارعون في تقديم الرشوة ويتقنون سرقة مجهود الآخرين لانتزاع مزايا ليست من حقهم بطرق ليست مشروعة.
يبدو أن الفهلوة قديمة قدم الإنسان وأن الفهلوية تمتد جذورهم لقديم الزمان، لايخلو عالم منهم، منتشرون في كل زمان ومكان ولديهم قدرة على تحديث مهاراتهم وتطوير حيلهم للإيقاع بضحاياهم دون أي وازع من ضمير أو أخلاق أو قيم.
يحيطون بنا من كل مكان ، نغض الطرف عنهم ترفعا أحيانا والتماس أعذار للضعفاء منهم أحيانا، ونشتبك في كثير من الأحيان معهم بعدما تتخطى استفزازاتهم الحدود وتفوق جرائمهم قدرتنا على التحمل .
قادنى حظى لقضاء يوم مع الفهلوية عندما اضطررت للتوجه لإحدى المصالح الحكومية .. كانت البداية مع موظف مسؤول عن تنظيم دخول طالبى الخدمة من أمثالى .. يحمل ورقة طويلة يقيد بها الأسماء .. انتظرنا في صمت ممل .. لجأ كثيرون لأجهزتهم النقالة لقطع الوقت، بينما انشغل البعض بالثرثرة وفتح حوار مع غرباء للتسلية، وبحثا عن هموم الغير التي تهون بلاوينا .. وهرع ثالث للأكل تحاشيا لمعركة البطون الخاوية بعدما تمتد ساعات النهار دون تلبية مطالبها.
إنشغالنا لم يحل دون الإحساس بالضيق لطول الإنتظار، ضيق وصل لحد الغضب بعدما لاحظنا أن هناك من يتخطى الدور وأن هناك من يتلاعب ويتواطأ لتقتحم الصفوف وجوه غريبة حديثة الحضور، ضاربة عرض الحائط بالجالسين لساعات ملتزمين بأدوارهم.
إستياء بدأ بهمهمات ثم احتجاجات غاضبة تقابلها تبريرات من الموظف المختص بأنه ملتزم بقائمة الأسماء فيخرجها مرددا أكثر من إسم في محاولة لإمتصاص غضب المحتجين،
نبتلع الغضب مضطرين آملين في إنجاز المهمة .. نعود نراقب في صمت مسرحية الفهلوية .. تلفت نظرنا سيدة خمسينية تسير بخطوات ثابتة، ثم لاتلبث فجأة أن تلهث ممسكة بقلبها يعلو صوتها الواهن، تتنفس بصعوبة، تهرع بعض السيدات إليها يقبضن على يدها تتكيء بوهن عليهن، يحملنها لأقرب مقعد، يقدمن المناديل المعطرة وزجاجة مياة لتخفيف حالة الهبوط التي ادعتها، قبل أن تسرع بالهمس في أذن إحداهن طالبة الموظف المسؤول عن تنظيم الدخول، يأتيها مسرعا كمن أجاد قراءة الرسالة تقبض على يده وتترك ورقة نقدية يتلقاها بحرفية مرددا بصوت مسموع "ألف سلامة ..متقلقيش .إن شاء الله حتنجزى طلبك بسرعة" ..
حيلة مكشوفة وإن انطلت في بدايتها على البعض، تعاطفا وإشفاقا ربما يدفعهم للغضب والاحتجاج خاصة إذا ما مارس الفهلوية شكلا آخرا من طرق تحايلهم، منها إدعاء العظمة والتباهى والسطوة، في محاولة لكبح جماح أي صوت محتج، بالصوت العالى والعجرفة المصطنعة رغم أنها تثير مزيدا من الإستفزاز، لكنها في الغالب تقابل بالصمت استسلاما لألاعيب الفهلوية التي لا تنضب.
لا تنتهى اللعبة عند حد الدخول للمصلحة الحكومية، لكنها مجرد البداية .. المرحلة التالية تكون مع ذلك الساعى مفرط الحركة سريع الكلمات فارض حضوره عارضا لخدماته كأنه المنقذ المخلص من كل التعقيدات البيروقراطية .. وطبعا مقابل دفع إتاوة تزداد مهمة الإنجاز كلما زادت قيمتها.
بينما تستسلم مرغما للفهلوى النشط، لا يلفت إنتباهك فهلوي آخر يترقبك بتركيز عال، يرسل نظراته النارية للفهلوى النشط يحاول أن يلجمه ويحد من حركته ويقزم دوره ويدخل سريعا إذا لزم الأمر ليكشف لك أن هناك من هو أجدر لتسهيل خدماتك .فلا يفل الفهلوى إلا فهلوى أكثر حقارة منه !!
ولأن الشيئ لزم الشييء لا تخلو أي مصلحة حكومية في الغالب من ماكينة تصوير المستندات، يجلس عليها في الغالب فهلوى آخر يضرب لك أخماسا في أسداس في أسباع، وينزع أكبر قدر من المكاسب لاعبا على وتر سرعة الإنجاز والملل الذى أصابك من طول الإنتظار والتعقيدات الروتينية السخيفة وكم الأوراق المطلوبة التي تبدو في الغالب بلا معنى ولا قيمة .تستسلم للابتزاز ممنيا نفسك بالخروج سالما بأقل قدر من خسائر الروح المجهدة والجسد الواهن.
لكن حلمك يبدو عصيا على التحقق، فالداخل للمصالح الحكومية مفقود والخارج مولود، وصرخة نجاتك بالخروج من رحم البيروقراطية العفن لم يأت بعد، ولن يتم خلاصك قبل أن تنتقل من مكتب لآخر، ومن موظف متعنت لزميل أكثر تعنتا، ومن فهلوى غبى لآخر ذكى ومن ثالث حذر وحويط ورابع أكثر صراحة وتبجحا.
رحلة عذاب تنتقل فيها بين فنون وحيل وأشكال الفهلوية، تتناقض فيها الأوراق المطلوبة .. تتعقد الأمور أو تحل فجأة، تتفاوت فيها الرسوم المطلوبة تقل وتزداد حسب التقديرات .. تطول ساعات الإنتظار وتقصر حسب تفتيح المخ .. تتنوع أشكال وحيل الفهلوية .. لا تقتصر على المصالح الكومية فالفهلوية يحيطوننا في كل مكان، وعلى كل الوجوه .. هناك البسطاء المعدمون منهم وهناك الوجهاء، هناك من يبتزون وينافقون ويرتشون، وهناك من يسرقون الفنون واللوحات ويبررون بادعاءات واهية.. وهناك أيضا من يسرقون الأوطان .. تحاصرنا الفهلوة، نوقن أنها أبدية محكمة الحصار لا نجاة منها، وأنها خالدة لاتفنى ولا تستحدث من عدم. طوبى لضحايا الفهلوة وإن كانوا يتحملون بصمتهم قدرا كبيرا من سطوتها وانتشارها وخلودها.
------------------------------
بقلم: هالة فؤاد