19 - 04 - 2024

بنتُ النعمان .. وحكاوي ابن عطوان !

بنتُ النعمان .. وحكاوي ابن عطوان !

خطيبٌ تهتزُ له أعوادُ المنابر، وقاصٌ يمسك بتلابيب الفن القصصي، فيوظف عناصرَه من حبكة ودراما وأحداث بحرفية مُنقطعةِ النظير، تُجبِرُ المُستمِع علي أن يجلسَ أمامه مشدوها، فاغرَ الفم، ( مفنجل ) العينين كأنَّ علي رأسه الطير !

وإلي ما سبق فهو حكاءٌ بارع، وحافظٌ للشعر قديمه وحديثه مُتقن، يستطيع أن يكر كتاب (المستطرف في كلِّ فن مستظرف) للأبشيهي من الجِلدة للجِلدة بصوتٍ يزينه حسنُ الإلقاء، والتعبيرُ بملامح الوجه، فتراه وهو يُردد لهند بنت النعمان: وما هندُ إلا مهرةٌ عربية سليلةُ أفراس تحللها بغل، يرفعُ حاجبيه، ويُكرر كلمة مُهرة أكثرَ من مرة تعبيرا عن الغزل، ويزوي بينهما عند كلمة بغل، تعبيرا عن الامتعاض والضجر !

أما عن علمه بتاريخِ البلدان والأحداث فحَدثْ ولا حرج، بَيْدَ أنه مدرسُ تاريخ لم تلده ولادة، ورغما عن هذا، ولأنَّ زامرَ الحيِّ لا يُطرِب، فكثيرًا ما كانت تُعنفُه أمُه، وتصك سمعه بعبارة : ( تاريخك أسود ومنيل ).

ولهذه العبارة حكاية، تعالوا سويا نحكيها من البداية : كان مهدي عطوان مُدرسا لمادة التاريخ بالمرحلة الإعدادية والثانوية، لا يختلف علي براعته اثنان، يعرفُ تاريخَ الوقائع والأحداث وأسبابَها، وإن جاز فقل : كان يعلمُ ما يدور بخلد أبطال المعارك أثناء وقوعها، فأشاد به الكل، ورفع له الجميع القبعة باستثناء أمه، التي غاظها ما رأته من جارتهم، وكانت هي الأخري مُدرسة في نفس مَدرسِة ابنها، يتوافد عليها تلاميذُ الدروس الخصوصية صباحا ومساء  كـ(الرُز)، أما ابنُها مهدي فحاله .. ( عِد غنماتك ياجحا .. واحدة قايمة وواحدة نايمة ) .

نادت الأمُّ ابنها مهدي يوما، فأقبل عليها خائفا يترقب، وقالتْ بغضب : ( هو ليه يا ابني عيالك شُحاح، وعيال جارتنا كتير ) ؟ فشكا إليها بعَبرَةٍ وتحمحُم، وقال أصلها مُدرسة رياضيات، وأنا مدرس تاريخ، فضربتْ علي صدرها، وقالت تاريخك أسود وِمْنَيِّل ) !

كان مهدي عطوان بارا بأمه أشدَّ ما يكون البر، مُؤمنا بأن رضاها من رضا الرب، فحرصَ دائما علي رضاها، ولو جاء ذلك علي حساب نفسه وزوجته وأولاده، فيُحكي أن زوجته ذبحت يوما ( دَكر ) بط، وحتي يتم نضجُ الطعام، صبَّرت أولادها الصغار بـ(كبدة الدكر، وقُناصته)، وعند العشاء، نَصبَتْ(الطبلية) وسط الدار، وفوقها طبق المحشي، وحشرت تحتها من جهة زوجها (حَلة) اللحم؛ ليوزع عليهم ( النوايب) أولا، ثم يأكل هو ما تبقي قانعا بذلك، حتي وإن لم يفز إلا بالرقبة والأجنحة، يستحضر قولَ ربنا :

(ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) .

فسخَ مهدي الورك، وأعطاه لأمه (صاغ سليم) دون أن تعبثَ به يد، فردتْ مش عاوزة أوراك، فهمهم مهدي، يُدندن بعبارة فؤاد المهندس في مسرحية " سُك علي بناتك " : ( بلاها نادية، خد سوسو)، وقال : بلاها ورك، وشق الصدر، ودفع بنصفه لها، فقالت .. مش عاوزة صدور، فقدم لها دَكر البط كله، فقالت بعدما تلمظت شفتاها : ( هو الدَّكر فيه أيه غير الكبدة والقُناصة) !

ومن ظريف ما يُحكَي أن الكوميدي الكبير أحمد جاد الله، كان من أصدقاء مهدي المقربين، وكثيرا ما اكتوي مهدي بنيران مَقالِبه، التي تفوق مقالب علي الزيبق مع الكلبي مُقدِم الدرك .

فيُحكَي أن مهدي أمسك بعقال حمارة أمه يوما، وسار أمامها، يُرددُ قولَ اليماني :

إني لها بعيرُها المذلَّل ... إذا ذُعرت ركابُها لم أُذعَر .

كان مهدي وأسرته يقصدون (غيطان) المشمش لقضاء إجازة شمِّ النسيم، ولسوء حظه لمحَه في الطريق أحمد جاد الله، فتباطأ مهدي ليتفادي لقاءه، ويسلَم من شره، ففطن أحمد لمراده، وناداه : (تعالي يامهدي .. جالك الموت يا تارك الصلاة)، وأسرع نحو أم مهدي يُقبلُ يدها، ويَجبُر خاطرها بكلامٍ ظاهرُه فيه الرحمة، وباطنُه فيه العذاب،  وقال : ( اسمعي ياحاجة لو مهدي زعلك في يوم تعالي خدي أي دور من أدوار بيتنا الخمسة)، هنالك أشرقتْ شمسُ محياها، وانزاح عن وجهها ضبابُ الغضب، والتفتتْ إلي ابنها، يسبقها ظَهرُ كفِّها علي صدره، وهي تقول : ( عشتْ يا أحمد .. شوف ياواد ابن الأصول !

فرد مهدي بصوتٍ مخنوق : شوفت يا أَمَّه شوفت !

وهنا أقول :  ربما يتساءل القارئ  .. ما الهدف من هذا المقال ؟

وسريعا تأتي إجابتي بأنه سيجد فيه مدحا مُستحقًا للرجل، وإشادة بمواهبه الجمة، التي كان فيها نسيجَ وحده، وسيجد أيضا مقدار بره بأمه، فضلا عن هذا كله، سيجد الطرفة، في وقت عزت فيه الابتسامة، وعمَّ فيه النكد .. حفظ الله أستاذي الحبيب مهدي عطوان، وبارك في ذريته، وثقَّل موازينه بما قدمه لتلاميذه من علمٍ نافع، وحكيٍ شيق .
------------------------------------
بقلم: صبري الموجي *
* مدير تحرير الأهرام

مقالات اخرى للكاتب

زمن (التيك توك) .. وكفران القراءة !





اعلان