بعدما مد ذارعيه متوهما امتلاك كل المكان و الفضاء حوله، فاجأني الشاب الذي لم يبلغ بعد 19 سنة بعبارة :"انت مش واخد بالك .. الدنيا دي كلها إعلانات.. الدنيا هي الإعلانات".
كنا نجلس معا بجوار النهر الخالد، وسبحان مغير الأحوال. لم تسلم شواطئ النيل بدورها مع الطرقات من الاحتجاب خلف لوحات الإعلانات العملاقة. وهذا مع وباء خصخصة الفضاء العام ومصادرته حول النيل بتكاثر نوادي "باشوات" الفئات المميزة فوق الشعب والدستور ومشروعات "البزنيس" الخاص من أجل "البهوات الإيليت" تكاثر "الأميبا" و"البكتيريا" و"الفيروسات". و هكذا تماما كما توالد و تكاثر وهجوم الإعلانات الكاسح على الفضاءات العامة ومن الشاشات داخل غرفالنوم والمعيشة وبين أصابع اليدين. وأيضا بين الأب وبناته وبنيه.
ومع هذا، قاطع عدد من المصريين ـ كالعبد لله ـ الدراما التلفزيونية منذ أن غزتنا جحافل جيوش الإعلانات،ولتفرض نفسها على المشاهدة في البيوت والمقاهي وتقتحمنا. وتغتصب دون استئذان أو رحمة أوقات الناس. و تفترس أدمغتهم، وتصطنع أولويات مزيفة مدمرة. وكأنه لا يكفي حرمانهم من حرية التعبير والرزق ولقمة العيش و انتخاب بحق لحكومتهم وحاكمهم ورقابتهما ومحاسبتهما.. وغيرها من أساسيات وبديهيات حقوق البني آدمين منذ قرون.
لكن أن يبقى مصريون وبالملايين ومن ضحايا واقع يزداد بؤسا وقسوة أسرى عالم المسلسلات والإعلانات الافتراضي وضحاياها فهذا أمر يفوق خيال "يوسف وهبي" صاحب القولة الخالدة: "ما الدنيا إلا مسرح كبير". وعلى الأقل كان المسرح المصري حينها ثقافة وفنا ومتعة راقية أدخل روائع الأدباء العالميين إلى فضاءات قرانا ونجوعنا وبأجرانها وفسحاتها، ومعها ترجمات ومعالجات باللغة الفصحى، فتذوقها أجدادنا وجداتنا. وتعاطفوا مع مآسي أبطالها من مجتمعات وثقافات أخرى بعيدة.. ومع قضايا الإنسان الكبرى. وهكذا كانوا بدلا من "اللامبالاة" و"البلادة" و"الأنامالية" إزاء واقعنا نحن ومشكلاته اليوم.
وعجايب!
---------------------
بقلم: كارم يحيى