لمّا استعمل النبىُّ صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يُقال له ابن اللتبيَّة على جمع صدقات بنى سليم، جاءه الرجلُ بما جمع، وقال هذا لكم، وهذا أُهدى إلى، فاحمر وجه النبى وقال : أفلا جلسَ فى بيت أبيه وأمه حتى تأتيَه هديتُه إن كان صادقا .
السابقُ "ديالوج" تراثيٌ يَكشفُ رفضَ استغلالِ النفوذ - الذي اتسع معه الخرقُ علي الراقع في زماننا - أيًا كانت صورتُه، ويُظهر كيف تصدى النبىُّ لهذا السلوك رافضا إياه مُعنِفا فاعله لكيلا يعود إليه.
ورغم تجريم الشرع لهذا الداء العضال، أقصدُ (استغلال النفوذ)، إلا أنه صار سمةَ كثيرٍ من العاملين بالقطاع الإدارى فى الدولة، فما من مصلحةٍ أو هيئة حكومية إلا وتفرضُ علي المُتعاملِ معها تفتيحَ مُخه حتى تنقضى، وما من ورقةٍ ينقصُها توقيعُ مسئول أو ختمُ نسر، إلا وفُتحَ من أجلها دُرجُ أو (كِرشُ) أو جَيبُ الموظف المختص، ليدسَ فيه طالبُ الخدمة بعضا من أوراق البنكنوت - قَلَ أو كثُر - كجواز مرور .
إن أزمتنا الحقيقية أزمةُ أخلاق، وعدم رضا بما قسمَ الله من رزق، رغم أن الرضا بالمقسوم عبادة !
فكثيرا ما لهث العاملون بالقطاع الإدارى للدولة وراء الوظيفة (الميرى)؛ طمعا فى الاستقرار، وما إن أتتْ، وضَمن الموظفُ راتبه الشهرى، حتى ازدراها، واستصغر العائد منها، وانطلق يبحثُ لنفسه عن سبيلٍ آخر لزيادة الدخل، حتى وإن كان غير مشروع، كالرشوة أو الهدية، أو الإكرامية، أو أيِّ مسمي آخر لسلوكيَّات التضليل والتجهيل، التي تضيع معها الحقوق، وتُعطَى بسببها الفرصُ و الخدمات لغير مُستحقيها .
وأؤكد هنا أنه إذا كان كبارُ الموظفين، يترفعون عن رشاوى وهدايا البسطاء، فإن الخطر الحقيقى فى مُديري مكاتبهم وهيئة السكرتارية، الذين يفتحون باب المسئول على مصراعيه أمام مُقدمِى الهدايا و الرشاوى، ويوصدونه فى وجه النزيه والشريف؛ استنادا إلي ثقة المسئول فيهم .
وأقول : إذا كان المسئولُ - أيا كان - جاهلا بما يَحدثُ خلفَ الكواليس، فتلك مصيبةٌ، وإن كان عالما فالمصيبةُ أكبرُ .
إن موظف الدولة أيا كان منصبه هو خادمٌ للشعب، يتقاضى راتبه الشهرى من عائد الضرائب والدمغات، ورسوم الخدمات، التي يدفعها أبناءُ هذا الشعب، فحرىٌ به ألا يتوانى فى تلبية مطالبهم، وإنجاز مصالحهم، مع ضرورةِ إلزامِه مساعديه وسكرتارية مكتبه بتطبيق تلك السياسة.
إننا بحاجة ماسة لالتحام كلِّ القوى، وتضافر جهود جميع العاملين بالدولة، من قطاع إدارى، وأصحاب مهن حرة، وغيرهما؛ لنضمنَ لأنفسنا عيشة كريمة، وإذا كانت يدٌ واحدة لا تصفق، فإن صوت اليدين مسموعٌ، وتصفيقَهما قوىُّ .
فلنجعلْ لسانَ حالِنا المثلَ الصينى، الذي يحض على التضافر والالتحام : (أنا يدُه وهو عينى) ، الذي قاله الكفيفُ الصينى(جيا هيسكا) حينما تحدث عن صديقه (جيا وينكى)، وكان مبتور اليدين، حيث عمل الرجلان بالزراعة، واستعاض كلُّ منهما عن نقصه بما عند الآخر، فتمكنا من زراعة أكثر من سبعة أفدنة بالأشجار، بمعدل ألف شجرة كل عام، ضاربين أروع أمثلة التعاون والإخاء .
وإن تَعجبْ فعجبٌ أن يفعل مبتورٌ وكفيفٌ ما لا يفعله الأصحاء !
-----------------------------
بقلم: صبري الموجي