20 - 04 - 2024

"ستّ الحبايب" .. طَربٌ وبكاء !

أرسلَها لي عبر (الواتس)؛ مظنة إدخالِ السرور إلى قلبي، والسعادة إلى نفسى، فإذا بها تُثيرُ لواعجَ النفس، وتحركُ كوامن الفؤاد، فتنسكب الدموعُ على الخدود بسببها مدرارا .. إنها أغنية " ست الحبايب" للرائعة فايزة أحمد، كلمات حسين السيد، ولحن محمد عبد الوهاب، التي لم تكن - أبدا - لي وللكثيرين أمثالي مُجرد أغنية تطرب النفس بسماعها، بل هي ذكرى تتجدد، ومواقفُ تُستَحضر، وعَبَراتٌ تنسكب، حُزنا على فراق من كنا نرتمى فى ساحة سهلها الأخضر فتفيض علينا عطفا وحبا وحنانا .

ورغم أن كلَّا يبكى على ليلاه، إلا أنَّ حديثي عن الأم، ليس حديثا يخصُني، بل هو حديثٌ يُشاركني فيه كلُّ حريص على أن يحتفى بأمه في يوم عيدها، سواء كانت على قيد الحياة، أو رَحَلتْ عن دنيا الناس، وتركته يتيما - أيا كانت سِنه - يتجرعُ مرارة الثكل، وغصةَ الحرمان .

فرحلةُ الأم مع أبنائها هي رحلةُ من يُعطى بسخاء دون انتظارٍ للأجر، تبدأ عند حمل الوليد في بطنها تسعة أشهر بين الحنايا والضلوع، فتحويه بأحشائها، وتُغذيه بدمائها، ليصير يوما بعد يوم أشبه بعضو من أعضائها، بعدها تضعُه كُرها، بعدما حملته وهنا .

والمُدهش أن رحلة عطاء الأم لا تنتهى بوضع الجنين، الذى يخرج من بطنها كخروج الروح من الجسد مُسببا لها الآلام والآهات، التي تفوقُ الزفرةُ الواحدةُ منها عمرَ الإنسان لو أفناه كله في برِّ أمه وخدمتها، بل تبدأ من جديد، فما إن تضع الأمُّ وليدها حتى تُلقمه ثديها فيتقوى بضعفها، ويسمن بهزالها، ويترعرع عودُه، ويذبل غصنُها، ورغما عن هذا كله تراها أسعدَ الناس وأفرحهم بهذا المولود الجديد .

الأمومة هي رحلةُ عطاء تتصل حلقاتُها حاملة أسمى معانى الكرم والتضحية والإيثار، إذ تسهر الأمُّ لينام أبناؤها ملء الجفون، تتعب ليرفلوا في نعيم الصحة والعافية، تجوع ليشبع أبناؤها، وتعطش ليرتوا، ولما كان الأمر كذلك، جعل ربُنا حق الوالدين تاليًا لحقه سبحانه، فقال عز من قائل: ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) .

كما أخبر المصطفى أنَّ من أحب الأعمال إلى الله بر الوالدين، والذى قدمه على الجهاد، كما هو ثابتٌ في صحيح السنة، بل وأخبر النبيُّ في حديثه الصحيح أنَّ الوالدين هما أولى الناس بحسن الصحبة والبر .

والمتأمل يجد أنَّ وصايا الله بالوالدين جاءت في القرآن تتري؛ لأنهما سببُ وجود الإنسان وسرُ سعادته .

ورغمًا عن هذا التوجيه الإلهي، والإرشاد النبوي، نجد بيننا كثيرا من صور العقوق بالوالدين، فهذا ابنٌ يضيق ذرعا بأمه، فيدفعها إلي ملجأ، أو دار مسنين؛ فرارا من خدمتها، وآخرُ ينصرُ عليها زوجته، التي تصيرُ آمرا مُطاعا، وتضحى الأمُّ في بيت ابنها آبقا ذليلا، بل منهم مَن ينهر أمه ويصرخ في وجهها، وهى التي كانت بالأمس تتكلم همسا لكيلا تُفزعه في نومه، وتُعكر صفو مزاجه .

وليت عقوقَ البعض، يقف عند هذا الحدِّ، بل وصل الجُرم ببعضهم منتهاه، فإذا به يضرب أمه وأباه، بل ويقتلهما، كما تطالعنا الأخبارُ الفجَّة صباح مساء، وغيرها من صور العقوق، التي جعلتْ أديبَ العلماء الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - يقول في ذكرياته : إن الإنسان يُربى كلبا فيفي له، وحمارًا فلا يرفسه، ويُطعم قطا فلا يعضه، ويُفنى الوالدان نفسيهما في الولد، فينسى فضلهما، ويجحد يدهما، فيا عجبا، أيكون الكلبُ والحمارُ  والقط أوفى من الإنسان ؟

يبدو أن الأمر صار كذلك  !
------------------------------
بقلم: صبري الموجي * 
* مدير تحرير الأهرام


مقالات اخرى للكاتب

زمن (التيك توك) .. وكفران القراءة !





اعلان