24 - 04 - 2024

مرثية للدكتور "محيى الدين الغريب" وشهادة أصبحت واجبة عن الإنسان والوزير

مرثية للدكتور

وداعا ..

الدكتور "محيى الدين الغريب"

زوج ابنة خالتي المرحومة "كريمان سليم"، والدة نجليه العزيزين أصدقاء لعب الطفولة والصبا المهندس "هشام" والدكتور "عمرو".

.. رحم الله

أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة ، وزير مالية مصر بين 96و 1999 ورئيس هيئة الاستثمار والمناطق الحرة قبلها. وقف ضد فساد الخصخصة.. وفساد تعويم الجنيه المصري.. وفساد الحزب الوطني الحاكم والمنحل بحكم قضائى بعد ثورة يناير المجيدة ووزراء حكوماته.

وأيضا ضد فساد رؤساء مجالس إدارة الصحف القومية، بما في ذلك "الأهرام"، حين طالبهم في عام 1999 بدفع ضرائب الدولة مستحقات الخزانة العامة وحقوق عموم المصريين. ولما احتجوا بأنها ذهبت لتطوير المؤسسات وشراء مطابع وورق طباعة وغيرها، اتضح أنها كلها تصرفات خارج رقابة الدولة وبدون إذنها. بل وتمسكوا برفض اقتراحه بعدما بلغت هذه الديون المليار جنيه توريد ما حصلوه من مبالغ ضرائب العاملين بهذه المؤسسات ومن رجال أعمال تحت حساب تحصيل الضريبة (مجموعها نحو 300 مليونا) والبحث عن حل لدى مجلسي الشعب والشورى للإعفاء مما تبقى من المليار على هيئة ضرائب تمغة إعلانات الصحف. ويعرف الصحفيون أنفسهم ضحايا امتناع أباطرة الصحف عن سداد تأميناتهم وضرائبهم للخزانة العامة، ومعها الحصة المتواضعة لنقابة الصحفيين وصندوق معاشاتها المقررة قانونا من تمغة الإعلانات. ومن يود المزيد من التفاصيل على لسان الدكتور "محيى الدين" ليرجع إلى حواره مع الزميل الأستاذ "محمد مصطفى" المنشور بجريدة " المصري اليوم" بعدد 23 أبريل 2007. 

وبعدها بأشهر معدودة،عاقبه نظام "مبارك" بالسجن الظالم ولأسباب عديدة. وسبقه تشهير صحفه وإعلامه، وربما بسبب مسألة إهدار حقوق الضرائب عند هؤلاء الأباطرة. وبرأته محكمة النقض بحكم نهائي بات من كل التهم / التلفيقات. لكن بعد 25 شهرا في السجن، ومنها شهر حبس جائر بعد حكم البراءة وبالمخالفة للقانون.

ولعل الدكتور "محيى" هو وزير المالية الوحيد الذي جرت محاكمته و حبسه وسجنه على هذا النحو،  وبعد نحو عام واحد من الخروج من الوزارة. لعله الوحيد من وزراء المالية في مصر الذي تعرض لهذه المحنة ومنذ تولى أول وزير مالية "ريفرز ويلسون" عام 1878 في عهد الخديوي "إسماعيل"، وكذا منذ "دفتر دار مصر"  الأمير "إبراهيم بك" عام 1807 في عهد الوالي "محمد علي"، مرورا بأول رئيس لديوان المالية "محمد لاظوغلي" في عهده بوصفه مؤسس الدولة المصرية الحديثة. 

 وعندما يسترجع المرء معاناته من الافتراءات والتشهير والسجن اليوم، لابد أن يرد على الذهن أنه وحتى بعد ثورة يناير المجيدة لم يمثل وزير مالية واحد أو غيره من وزراء المجموعة الاقتصادية بحكومتي "عاطف عبيد" و" أحمد نظيف" حضوريا أمام محكمة. ولم يذق أحدهم يوما الحبس و السجن. وهذا على الرغم من مشاركتهم في المسئولية عن سنوات " مبارك " الكارثية والأكثر فسادا، وبعد صعود الابن "جمال" ومجموعته في لجنة السياسات بالحزب من غلاة الليبرالية المتوحشة / رأسمالية المحاسيب مع الألفية الجديدة.

بل والأكثر بؤسا أن تعود اسماؤهم الآن ترتفع في بورصة الترشيحات لتولى مناصب أرفع في الحكومة، وبدعوى الإنقاذ من أزمات جراء الاستمرار في نفس سياساتهم المعادية لحقوق أغلبية شعب وللحوكمة الرشيدة. عادت اسماؤهم متوجة بمديح مذهل، وحتى ممن تم توظيفهم بالتعليمات لتشويه سمعة الدكتور "محيى الدين الغريب" في الصحافة عام 2000. عادت على الرغم من فرارهم لخارج مصر بعد ثورة يناير وأحكام القضاء الإداري الباتة والنهائية ضد فساد الخصخصة، والتي تدينهم بالاسماء والمناصب وصولا إلى رئيسهم "حسني مبارك". 

***

مع وفاة الدكتور "محيى" ارتفع الحرج عني كإنسان ومصري وصحفي كي أكتب عنه. و هو حرج لازمني منذ عقد السبعينيات عندما كنت أشاكسه كاشتراكي مختلفا مع توجهاته الاقتصادية والسياسية زمن الرئيس "السادات". وامتد الحرج وزاد مع عملي بالصحافة و تحديدا في "الأهرام". ثم إلى الوفاة يوم الجمعة 3 مارس 2023 عن عمر ناهز 90 سنة، مع إننا التقينا لمرة او مرتين على عشاء عائلي قبل سنوات في منزل شقيق زوجته الأولى المرحومة "كريمان" ابن خالتي الخبير والعالم الاقتصادي البارز الدكتور "حسن سليم". 

وكان الراحل صديقي على صفحات التواصل الاجتماعي، نتبادل الود ولا يحرمني من دعائه الطيب وتمنياته ، وحتى النصائح الطبية والصحية. وربما كان يخشى علي مما أنشر، لكنه يمسك فلا يعلق أو يتفاعل مكتفيا بدعواته بالسلامة.

وبعيدا عن الحرج واليوم أقول إنني أشهد للرجل منذ عرفته عن قرب في منزل خالتي (حماته) السيدة الفاضلة " بهية البارودي" رحمها الله حسن الخلق والأدب ووافر العطاء الإنساني. كنت وأنا هذا الشاب الغر الذي يصغره بنحو 25 سنة أطيل مجادلته وبالاختلاف الشديد في الأمور العامة، وحتى في شؤون كليته التي كنت أدرس في الطابق الأخير بمبناها طالبا بكيلة الإعلام جامعة القاهرة بين 76 و 1980. ولا أتذكر يوما أنني لجأت إليه أو مررت به في كليته، أو ذكرت لأي من أصدقائي وزملائي وأساتذتي بالكلية صلة القرابة بيننا. وأعتقد أن من بينهم من سيفاجأ اليوم برابطة النسب هذه بيننا.

لكن كل هذا لم يضعف يوما من محبتنا المتبادلة وتقديري له كإنسان ومحب لوطنه، وإن كان على نحو مثير لاختلافي معه زماااان. ولن أنسى له كيف كان يمر على خالتي " بهية" صباحا، وهو في طريقه إلى جامعة القاهرة ليعطيها حقنة العضل،  ويرعى شؤونها بعد وفاة زوجها الخبير بوزارة العدل سابقا الأستاذ "محمد سليم" رحمه الله ، و بمنتهى التواضع والعطاء والمحبة وكابن بار مع غياب ابنها وشقيق "كاريمان" الوحيد الدكتور "حسن" لسنوات طوال في للعمل بأبي ظبي. 

وفي هذه الزيارات وحيث كنت أقيم عند خالتي على مقربة نسبيا من جامعة القاهرة كان بيننا فيض ود ومحبة وتقدير، على الرغم من " النقار السياسي" وحول التوجهات والمذاهب والسياسات الاقتصادية وموقفه من سلطة "السادات" وتحولاته.

وأضيف اليوم وهنا في شهادتي المتأخرة عنه، وبقدر ما تسمح مناسبة تعازي، كون الرجل وزيرا لم يقطع صلة الود مع عائلة زوجته الأولى بعدما رحلت إثر معاناة مع مرض عضال وعملية جراحية خطيرة. وقد خلف رحيلها على هذا النحو بعدما كانت تفور بالحيوية والجمال والذكاء ألما لنا جميعا. ولعلني لم أبرأ منه بعد كلما تذكرت "أبله كريمان". وربما لأن أمي كانت الأقرب إليها لكونها صغرى شقيقاتها وأشقائها.

لم يتخلف عن واجب عزاء أو أفراح لنا. وكان حاضرا في عزاء والدي رحمه الله خلال أبريل 1998. ولعله لاحظ ارتباكي وحرجي أمام زملائي، فأخذني في حضنه مواسيا، فزاد ارتباكي. وصرت حائرا بين عاطفتي الإنسانية تجاهه و"نفوري" مبتعدا عن كل ما له علاقة بالسلطة. ولعل من سأل من زملائي عندما انصرف اندهش لما علم بصلتنا العائلية، وبمثابرته مع مشاغله الرسمية كوزير مالية على الوصل معنا نحن أسرة زوجته الراحلة. وأتذكر أنني عجزت حينها عن أن أشرح لزملائى الصحفيين بالجريدة والمؤسسة لماذا لا ألجا إليه لرفع ظلم وتجبر أصابني في عملي كاد وقتها أن يصل بي إلى الفصل التعسفي. 

لم يتخلف أيضا كل رمضان عن دعوة إفطار الدكتور "حسن" وزوجته الخبيرة في الشئون المصرفية وكيل البنك المركزي سابقا الدكتورة "فائقة الرفاعي" . فكنا نلتقى معه متحللا من رسميات الوزارة وشهرة توقيعه على عملات النقد المصرية الورقية كوزير مالية حينها. نتحدث بود ومحبة وبساطة؛ وإن كان منصبه في الحكومة زاد من حرجي الباطني غير المصرح به ازاءه هو. وبالطبع هذه مشكلتي ولا تثريب عليه.

وأشهد أنني لم ألحظ مرة في هذه اللقاءات أنه جاءنا في صحبة موكب أو حرس، ولو نفر واحد. ولعل الأمر كان غريبا بالنسبة لي لاعتبار موضوعي هو أنها كانت سنوات ضربات إرهاب الجماعات الإسلامية واغتيالاتها. وأيضا لسبب ذاتي، فقد كان رئيس تحرير صحيفتي "بالأهرام المسائي" حينها يأتي إلى عمله في موكب بحراسة. بل ويصطحب مفاخرا منتفخا حارسا شخصيا ضخما مفتول العضلات يدور معه على غرف الجريدة، ومسدسه يظهر إلى جوار خاصرته متدليا أسفل جاكيت البدلة داكنة اللون المحلاة بربطة عنق ودبوس بعلم مصر. 

الليلة الماضية ذهبت إلى عزائه بمدينة نصر، مع إنني لم أعد أغادر المنزل ولمسافات طويلة بعد غروب الشمس لأسباب شخصية / صحية، إلا مضطرا و"للشديد القوى". وللأسف تعرف نجله "عمرو" علي بعد غيبة عشرات السنين، فيما لم أعرفه للوهلة الأولى. فمعذرة و العتب على النظر وما فعلته بنا السنون. وآلمني أن يظل الابن الأكبر "هشام" خارج مصر للآن ومنذ محنة الافتراءات وسجن الأب. وكنت أمنى النفس برؤيته.. "واحشني". ولعل ما بلسم جراح افتقاده وفي هذه الليلة أنني سلمت على نجليه وامتلأت عيناي من محياهما، وقد أصبحا شابين يشبهانه كما عرفته في شبابه الباكر، فتعرفت عليهما على الفور.

رحم الله الدكتور"محيى" الحبيب وجازاه عن كل عطاء للبلد وظلم ومعاناته وأسرته من ظالميه.وسامحه عن أخطائه. وعلى الأقل، سأظل أعتقد وغيري بأنه لايحق لأبناء وأهلية موظف عام من أقارب الدرجة الأولى العمل بالتجارة و"البزنس" أو ممارسة أي نشاط ينطوى على أرباح ومكاسب على تقاطع مع إختصاصه خلال مسئوليته. ولأنه مهما بلغ الحذر والحرص والتجرد لن يخلو الحال من شبهات تضارب مصالح ومجاملات. ولن ينجى حذر من غدر ـ ولا أقول قدر ـ حتى من أولئك الأكثر تورطا في الفساد والإفساد بأبنائهم وزوجاتهم وأقاربهم .. وحتى بأنفسهم. 

.. رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته وألهم أنجاله "هشام" و"عمرو" و "مهاب" و"حبيبة" وزوجته السيدة "منى زهران" و ابنته أيضا الروحية " نيفين" وكما كان يقول وشقيقه المتبقى على قيد الحياة الدكتور " عبد اللطيف " وكل عائلة الغريب .. ألهمهم جميعا الصبر والسلوان. والتعازي لكل عائلة "غريب" ولمحبية وأصدقائه وزملائه وتلامذته في  الجامعة .. ولنفسي أيضا.  

.. والراحل الكريم أصبح اليوم في ذمة الله..والتاريخ. وهما خير حكم. وويل لقاضي الأرض من قاضي السماء .. ويل لكل من ظلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: كارم يحيى
(*) بالأصل هذا المقال تطوير لتدوينة نشرتها بصفحتي على الفيس بوك بعد العودة من العزاء. 


مقالات اخرى للكاتب

29 أكتوبر 56: العدوان الثلاثي ومذبحة عمال





اعلان