صكَّ سمعَه خبرُ وفاةِ أحد أقاربه بمدينة القاهرة، فارتدي جلبابه الصوف المفرود بمكواة الرجل، وعصَّب رأسه الكبير، الذي يزن مديرية بشال أبيض، وانطلق يُوسِعُ الخطي ليلحق (الدَلْتا)، وبيده عصاه الخيزران المعقوفة عند قبضة يده كعلامة استفهام تتحسرُ قائلة : أليستْ هذه الوجاهةُ أهلا للعمودية، وحتي البكوية، أو الأفندية علي أقل تقدير ؟
( أي والله) آه لو كنتُ من أرباب العلم لقُلتُ ساعتها بملء فيَّ : ( يادنيا اتهدي ما عليك قدي، ولكنْ الحلو ميكملش).
في شادر العزاء، وبعد انتهاء وصلة التلاوة الأولي، سَحَبَ (الجورنال) من تحت إبطه، وأسرع يُطالِع الأخبار، ولكنه نسي أنه لا يعرف القراءة والكتابة، وأنه (بصمجي) لا يفُك الخط، وفضحت الصحيفةُ المقلوبة سره أمام المُعزين !
الحاج محمد السيد حسانين، أحد وجهاء القرية الكبار، والذي حباه الله بزوجة قاهرية، كانت رزقا بحق، حفظت القرآن خَلفَ قُراء الإذاعة، ووعت قَصَص ألف ليلة وليلة، وأبو زيد الهلالي، والزناتي خليفة، واعتادت أن تُعيد حكيها علي زوجها بأسلوبٍ سهل يُمكنُه فهمُه .
جَبرتْ لبيبةُ محمد حسانين كسرَ زوجها، وأضافت إلي قوته العضلية قوةَ العقل، فأكبره الناس، حيثما حلَّ وأينما ارتحل، فكان الكلُّ ( يعمل له ألف حساب).
أثمرت زيجةُ محمد ولبيبة، ثلاثة رجال (زَي الورد)، وقطعا هناك إناثٌ، لم أعرفهن أسعد الحظُ من تزوجهن !
من صُلبِ هذا الرجل العفيِّ، وترائبِ تلك المرأة الورعة، خَرجَ الحاج حلمي أبو حسانين - سابقا أخويه محمد ( ناظر) مدرستنا الإبتدائية الأسبق، الصارم الوجيه، والسيد (عامل) البوفيه، الحليم الحاني رحمهما الله - ليُعلن للعالم أجمع أن (اللي خَلفْ لم يمُت)، فكان طبعةَ أبيه الفاخرة، وصورتَه التي بالألوان، فجمعَ إلي قوة الشخصية رجاحةَ العقل، وإلي صلابة الإرادة دراسةَ القرار، وإلي الحَزمِ والعزم التؤدة والتأني، فنال رضا الناس، وحُبَّ وثقة كلِّ من عرفه وعامله .
تنازع حلمي أبو حسانين تياران، أحدُهما يجذبُه إلي الشدة والغلظة التي ورثها عن أبيه، يحد من غلوائها تيارُ الحلم واللين الذي ورثه عن أمه لبيبة القاهرية المُثقفة .
انتصرتْ إرادةُ الأم، فكان حلمي إلي اللين والحِلم أقرب، والتحق بكتَّاب القرية، يحفظ القرآن، فخالطت بشاشةُ القرآن قلبه، فزادته حكمة ولينا، وتشرب آداب القرآن وأحكامه، التي أهلته لتولي مناصبَ عديدة، تُثبت أنه مؤسسةٌ في العمل العام .
إلي جانب وظيفته بهيئة الطرق والكباري، التي يتقاضي منها راتبه الذي يُنفق منه علي زوجته وأولاده، تولَّي العديد من المناصب العامة، التي تفاني من خلالها في خدمة الناس، فأحبوه وأكبروه، واستحق أصواتهم في أيِّ انتخاب خاضه عن استحقاق وجدارة .
عمل حلمي رئيسا للاتحاد الاشتراكي بالقرية، وأمينا للحزب الوطني بقرية إمياي، ورئيس تنمية المجتمع المحلي، ووكيلا للمجلس الشعبي المحلي، فأسهم في إقامة العديد من المشروعات الخدمية، ومن أهمها الوحدة الصحية بقرية إمياي، التي تصدت آنذاك للأمراض المُتوطنة، وعلي رأسها مرضُ البلهارسيا .
صدرته وجاهتُه، وجمالُ مُحياه، وطيبُ حديثه لرئاسة المجالس العرفية، فحلَّ العديد من القضايا، ووأد العديد من الفتن، وفك الاشتباك بين العديد من العائلات، وأزال الخلاف بين الكثير من الأسر .
كان - رحمه الله - حافظا مُتقنا للقرآن، يؤم المصلين بصوته العذب الشجي .
خرج من صُلبه أبناءٌ وأحفاد، تسابقوا في العمل العام، وخدمة الناس بفضل تخرجهم في مدرسة الحاج حلمي أبو حسانين أحد رجال قريتنا الكبار والكبار جدا .
كنتَ تلقاه وهو الشيخُ الكبير، فيلقاك بابتسامة وجه، ويبادرك بالسلام، فكان رحمه الله دبلوماسيا بحق .
------------------------------
بقلم: صبري الموجي