28 - 03 - 2024

كالفن ضد كاستيليو: الديكتاتورية ضد الحرية

كالفن ضد كاستيليو: الديكتاتورية ضد الحرية

- الحرية غير ممكنة من دون السلطة (وإلا حلت الفوضى) والسلطة غير ممكنة من دون الحرية (وإلا ساد الطغيان)
- كالفن دكتاتور ديني أوصد باب تأويل الإنجيل وأضحى الحاكم الأوحد محولا المجتمع الديمقراطي إلى ديكتاتورية لا رأي فيها سوى رأيه
- أساليب الطغاة للقبض على مفاصل الدولة تتنوع من الوعود البراقة وتبدأ القمع بالكلام ثم بتحريض المجتمع على المعارض وأشد أنواع الديكاتورية تلك التي جاءت مبشرة بغد أفضل

الديكتاتورية لا تطيق الصرخات ولا تحبذ سوى هتافات التأييد ، بل هي لا تتساهل حتى مع الصرخة الأولى ، وتظهر ردة الفعل في تكميم الأفواه، يليها استئصال الأفواه وأصحابها. هذا ما أدركه ستيفان زفايغ الروائي والكاتب النمساوي من أصل يهودي ، من خطر وصول الديكتاتورية إلى السلطة ، وأراد أن يطلق صرخة التحذير. لكنه كان يعرف ويلات ذلك ، فكان أن نشر عام 1936 كتابه "كاستيليو ضد كالفن، أو ضمير ضد العنف" واختار له حقبة زمنية ترجع أربعة قرون إلى الوراء. 

الشخصية الرئيسية: جان كالفن أحد أعمدة البروتستانتية ، والدكتاتور الديني الذي أوصد باب تأويل الإنجيل بتأويله ، وعد كل خروج عليه جرما في حق الله والدولة ، تماما كما يفعل حماة الرب والناطقون باسمه دوما ، حتى فاق إرهابه ما فعلته محاكم التفتيش البابوية. والثانية سباستيان كاستيليو أحد دعاة الإصلاح المسيحيين الأوائل الذين دعوا  للتسامح الديني وحرية الضمير والرأي والفكر.

كتابه هذا ترجمه السيناريست والكاتب اللبناني فارس يواكيم وعنونه بـ "عنف الديكتاتورية" مؤكدا أن الكتاب من حيث المضمون "وضع الحاضر الخاضع للدكتاتورية على خشبة مسرح التاريخ في مرحلة ديكتاتورية مشابهة". وأوضح أن جان كالفن جاء إلى جنيف من فرنسا هربا من محاكم التفتيش الكاثوليكية ، هو المنضم حديثا إلى المذهب البروتستانتي. وبدأ حياته المهنية قسيسا في كاتدرائية سان بيار في جنيف، وما لبث خلال فترة زمنية قصيرة أن أمسك بزمام الأمور ، وأن أضحى الحاكم الأوحد محولا المجتمع الديمقراطي إلى ديكتاتورية لا رأي فيها سوى رأيه ، وكل الأصوات أصداء لصوته والويل لمن يعترض. وكان كاستيليو من أنصار كالفن. لكنه لم يتحمل الطغيان وقمع الحريات والزيف الكبير..

ويضيف "عندما أمر كالفن بإحراق المعارض ميغيل سيرفيت ـ فيزيائي وطبيب ومترجم، وعالم دين إسباني ، تضمنت اهتماماته العديد من العلوم ـ وأشعلت النيران في جسده وهو على قيد الحياة، تمزق كاستيليو وبدأت المعركة بينه وبين كالفن. ولم تكن مجرد معركة بين شخصين، بل بين تيارين ومنهجين: بين القمع والحرية ، والعنف والحوار ، بين التعصب والتسامح ، بين الديكتاتورية والديمقراطية. وهذه معاناة ستيفان زفايغ أيضا. إذ بعد نشر كتابه بسنتين ، أدرك أن الديكتاتورية آخذة في تصفية الخصوم ، وأن جيوشا من المنافقين الانتهازيين يؤيدونها ، فما كان إلا أن هاجر إلى لندن ، ثم إلى البرازيل. وعندما اشتعلت الحرب العالمية الثانية دب اليأس في نفسه وانتهى به الأمر إلى الانتحار هو وزوجته في يوم 22 فبراير 1942.

يحلل زفايغ في كتابه الصادر بتعاون مشترك بينداري مسعى ومسكيلياني تحليلا دقيقا لكل الأساليب التي يلجأ إليها الطغاة للقبض على مفاصل الدولة بكل تفاصيلها ، ثم إحكام السيطرة عليها. وتتنوع الأساليب من الوعود البراقة ، إلى التنصل منها ، وبدء القمع بالكلام ثم بتحريض المجتمع على المعارض وصولا إلى إعدامه ، مؤكدا أن أشد أنواع الديكاتورية عنفا هي تلك التي جاءت مبشرة بغد أفضل.

يقول زفايغ في كتابه الرائق في أسلوبه "ومن تراه يكون خصمه ـ يقصد خصم كالفن ـ إنه كاستيليو، ذلك المثالي المفرد الذي باسم حرية الفكر الإنساني أدان ذلك الطغيان وكل طغيان فكري مشابه؟ إنه حقا ـ بالمقارنة بالقدرة الهائلة لدى كالفن ـ البرغشة ضد الفيل! إنه، انطلاقا من حيث التأثير العام ، نكرة، صفرا ، شخصا لا وجود له. وأضف إلى ذلك، إنه مثقف فقير مدقع، يستطيع بمشقة تامة أن يطعم زوجته وأولاده عبر ترجمات يقوم بها ودروس خصوصية في المنازل ، إنه لاجئ يعيش في أرض دون إذن إقامة أو حق مواطنة ، ووطأة الهجرة عليه مضاعفة.

ويشير زفايغ إلى أنه في عصور التعصب العالمي يبقى الإنسان المحتفظ بإنسانيته عاجزا ومنعزلا تماما وسط الفقهاء المتحمسين المتشاجرين فيما بينهم. 

ملاحقة وأناس يخشون حريتهم!

لسنوات طويلة قبع ذلك المفكر الإنساني المتواضع في ظل الملاحقة وفي ظل الفقر وعاش حياة بائسة ، في ضيق دائم ، لكن في حرية دائمة أيضا ، كونه لم يرتبط بحزب ولا تواطأ مع فكر متعصب. إلا أنه خرج من أشغاله تلك، إثر إعدام سيرفيت ، ولبّى نداء ضميره الملح بقوة ، واتهم كالفن باسم حقوق الإنسان المنتهكة. عندئذ بدأت العزلة المفروضة عليه بالنمو لتصبح بطولة. بيد أن كاستيليو على النقيض من خصمه كالفن المعتاد على الحروب ، ليس عنده أتباع في غاية الشراسة والتنظيم يؤيدونه ويدعمونه ، ولا حزب ولا تقدم له الكنيسة الكاثوليكية أو البروتستانتية أي دعم ، ولا أحد من أصحاب المقامات الرفيعة ، لا ملك ولا قيصر قدم له يد العون مثلما قدموا من قبل إلى لوثر أو إيرازموس. حتى الأصدقاء القليليين المعجبين به، لم يتجاسروا سوى على أن يهمسوا له بالتشجيع سرا. إذ كم يشكل الأمر خطرا ، وعلى الحياة ذاتها ، أن يقف المرء علانية إلى جانب رجل رفع صوته عاليا لصالح المحرومين والمضطهدين ، في حين شاء جنون العصر آنذاك أن تلاحق السلطة خصومها في كل البلدان كالطرائد وأن يساموا التعذيب بتهمة المروق. وعبر حادثة سيرفيت رفض في حينه وإلى الأبد أن يكون للحكام في هذه الأرض الحق في ملاحقة أي إنسان في العالم بسبب عقيدته أو رأيه.

ويرى زفايغ أن كاستيليو وكالفن دليل حسي رفيع المستوى على تناقض خفي ، بيد أنه منيع في الوقت ذاته. أيا كان المصطلح الذي يود المرء أن يسمّي به قطبي هذا الصراع المستديم: التسامح ضد اللا تسامح ، الحرية ضد الوصاية ، الإنسانية ضد التعصب ، الفردية ضد الآلية ، فكل هذه التسميات تعبر عن قرار شخصي للغاية وفردي بالتمام؛ أيهما الأهم بالنسبة إلى كل فرد: الإنساني أم السياسي ، الأخلاقي أم المنطقي ، الفردي أم الجماعي.

ويقول "هذه الحدود الفاصلة دائما بين الحرية والسلطة ، لم يبق شعب ما ، وزمان ما ، مفكرون ما في منأى عنها. ذلك أن الحرية غير ممكنة من دون السلطة (وإلا حلت الفوضى) والسلطة غير ممكنة من دون الحرية (وإلا ساد الطغيان). ومما لا شك فيه أن ميلا غامضان نحو الذوبان الذاتي في الجماعة يكمن في أساس الطبيعة البشرية. راسخة لا تمحى، تبقى تلك الأوهام العتيقة بشأن إمكانية العثور على نظام ديني أو قومي أو اجتماعي معين يهب البشر أجمعين السلام والنظام إلى الأبد وبالتساوي بينهم. وقد أثبت المفتش الكبير في رواية دوستويفسكي بجدلية صارمة أن معظم الناس يخشى ، في الواقع، حريته الذاتية. وفي الحقيقة بسبب الإعياء الناجم عن تنويعات المشكلة المُرهقة، وبالنظر إلى تعقيدات الحياة ومسؤولياتها، تتوق الغالبية الكبرى من البشر إلى برمجة العالم آليا من خلال نظام صالح لكل أوان، يعفيهم من إعمال الفكر".

ويلفت زفايغ إلى أن هذا النزوع المسياني (انتظار المنقذ) إلى حالة تنزع الإشكاليات من الوجود، يشكل الخميرة الحقيقية التي تمهد الطريق لكل الأنبياء الاجتماعيين والدينيين. ودائما حين تفقد مثاليات جيل ما وهجها وألوانها ، ما إن ينهض رجل ذو موهبة في الإيحاء ويعلن بطريقة حاسمة أنه ، وأنه وحده ، وجد الصيغة الجديدة أو ابتكرها، حتى تتدفق عليه ثقة الآلاف كما التيار، بوصفه مخلص الشعب ومخلص العالم. ومن القاعدة الثابتة أن كل أيديولوجيا جديدة ـ وهنا بلا شك يكمن معناهاه الميتافيزيقي ـ تخلق مثالية جديدة. ذلك أن الذي يهدي البشر وهما جديدا بالوحدة والطهارة، يبدأ في أن يتخلص منهم القوي الأكثر قداسة: الحماسة وروح التضحية. يبدو الملايين، كما لو أنهم مسحورون، راضخون للانجذاب، للاستثمار، للاغتصاب الفكري، وكلما ألزمهم ذلك الداعية ناثر الوعود بالواجبات تمادوا في الاستلاب. الحرية، التي كانت حتى الأمس أسمى معاني سعادتهم، يتخلون عنها اليوم بكامل الرضا ويستسلمون للانقياد دون أدنى مقاومة. أما شعار تحطيم العبودية الذي أطلقه تاسيت قديما، فهو يتمثل الآن في الحماسة التي تولدها نشوة التضامن مع المجموع التي تجعل الشعوب تخضع بمحض إرادتها للعبودية، بل وتمتدح السوط الذي يضربها.

كل ضغط مآله الانفجار

ويوضح أن الذهن عنصر غامض كالهواء، لا يرى ولا يمكن الإمساك به، يبدو طيعا قابلا للتكيف مع الأشكال والصيغ كافة. وهذا يغري دائما أصحاب الطبائع الاستبدادية فيجعلهم يتوهمون، أن المرء يمكن أن يضغط هذا الذهن ويحبسه ويعبؤه طيعا في قوارير. بيد أن كل ضغط يولد إلى مادة ناسفة متفجرة. كل ضغط يقود عاجلا أم آجلا إلى الثورة. وعلى المدى الطويل تبقى الاستقلالية الأخلاقية للإنسانية ـ وفي ذلك كامل العزاء ـ غير قابل للتدمير. ولم يفلح أحد حتى الآن ، في أن يجبر البشرية في عموم الأرض بطريقة ديكتاتورية على تبني دين واحد أو فلسفة واحدة أو مفهوم كوني واحد ، ولن يفلح غدا أيضا ، إذ أن الذهن سيعرف دائما كيف يقاوم كل تبعية ، وسيرفض دائما أن يفكر وفق صيغ مكتوبة سلفا ، أو أن ينحط أو يهان أو يقزم أو يدجن. وعليه فكل جهد ينشد إخضاع تعددية الوجود، التي هي هبة الله، إلى قاسم مشترك موحد، هومبتذل ومن دون جدوى. مثله مثل تقسيم البشر إلى أسود أو أبيض، خيّر أو شرير، ورع أو مارق، مطيع للدولة أو معاد لها، على أساس مبدأ يفرضه منطق القوة. في كل العصور نجد نفوسا مستقلة تتمرد على مثل هذا الاغتصاب الممارس ضد الحرية الإنسانية. إنهم "المستنكفون ضميريا" الرافضون بحسم المشاركة في كل تسخير للضمير. ولا يمكن لأي عصر أيا كانت همجيته، ولا لطغيان أيا كانت منهجيته، إلا أن يجد أفرادا يعرفون كيف يتملصون من القمع الجماعي، وكيف يدافعون عن حق المرء في قناعة ذاتية تقف ضد العنيفين المهووسين بفكرة أحادية متسلطة، المستميتين في الدفاع عن حقيقة واحدة، حقيقتهم.

ويؤكد زفايغ أن كاستيليو جعل حياته رهينة الخطر بسبب قناعاته، إذ واجه فقهاء العالم حين أطلق على سيرفيت الذي أعدمه كالفن لقب الضحية البريئة، وحين رمى سفسات كالفن العنيدة بعبارته الخالدة "إن حرق إنسان لا يعني إطلاقا الدفاع عن عقيدة، وإنما قتل إنسان"، وحين كتب في منشور التسامح (قبل لوك وهيوم وفولتير والعديد من أمثالهم بمدة طويلة) مطالبا بحقوق حرية الرأي. لا، لا يحاولن أحد مساواة معارضة كاستيليو ضد حكم الإعدام الذي أودى بحياة ميغيل سيرفيت، بالمعارضات الأشهر ألف مرة لفولتير في حادثة كالاس أو زولا في قضية دريفوس. لأن هذه لم تبلغ الرفعة الأخلاقية لتلك. ذلك أن فولتير حين ناضل من أجل كالاس كان يعيش في عصر متسامح ، أضف إلى ذلك أن الأديب العالمي نعم بحماية الملوك والأمراء. والأمر ذاته بالنسبة إلى زولا الذي سانده كجيش غير مرئي ، إعجاب أوروبا بأسرها، بل والعالم بأسره، والتقدير الذي حظي به، وعلى قدر العون الذي قدماه ، قامر كل منهما بسمعته وراحة باله من أجل مصير إنسان آخر ، لكنهما ـ والفارق التالي يبقى حاسما ـ لم يقامرا بحياتهما كما فعل سباستيان كاستيليو الذي في نضاله من أجل الإنسانية ، عانى الأمرين من اللاإنسانية العنيفة القاتلة التي ميزت عصره.

دفع ثمن البطولة

ويتابع أن كاستيليو دفع ثمن بطولته الأخلاقية كاملا وإلى أقصى حدود طاقته. وإنه لأمر محزن، كيف خلق العنف الوحشي ذلك المنادي بمحو العنف الذي لم يشأ أبدا أن يستخدم أي سلاح سوى العقل. آه كم سيفطن الناس دائما وأبدا، كيف أن كل نضال سيبقى بلا أمل حين يخوضه إنسان بمفرده ضد تنظيم متماسك متين ، من دون سلطة تدعمه سوى الحق الأخلاقي. وإذا نجحت عقيدة ما مرة في أن تستولي على آلة الدولة ووسائل الضغط التابعة لها ، فهي تطلق الإرهاب من دون تردد ، وتخنق الكلمة في حلق كل من حاول أن يمس سلطتها المطلقة ، إن لم تخنق حلقه ذاته. كالفن لم يرد أبدا بشكل جدي على كاستيليو بل آثر أن يخرسه. كتبه مزقت، أحرقت، منعت، صودرت. وبابتزاز سياسي على المقاطعات المجاورة منع كاستيليو من الكتابة. وحين أصبح عن الكتابة والتوضيح، انقض زبانية كالفن عليه بحملات القذف. وما لبث الصراع أن انعدم ، وحلت محله التصفية الفكرية الحقيرة ضد أعزل أوحد. ولم يعد كاستيليو قادرا على الكلام ولا الكتابة، وبقيت مؤلفاته خرساء حبيسة الخزائن. بينما امتلك كالفن منبر الكنيسة، المطابع ووسائل النشر، المدارس، المجمع الديني، وكل آلة العنف التابعة للدولة وقد استخدمها دون تحفظ. كل خطوة قام بها كاستيليو خضعت للرقابة، كل كلمة تفوه بها تم التصنت عليها، ورسائله اعترضت قبل أن تصل إليه. فهل من عجب أن مثل هذا التنظيم المتعدد الوسائل والقوي قد انتصر على الرجل الأعزل؟ وحده الموت المبكر أنقذ كاستيليو من النفي أو الحرق.
----------------------------
تقرير - محمد الحمامصي









اعلان