لا يمكن لأحد تخيل حجم المعاناة التي يتكبدها كثير من أصحاب المعاشات للحصول على حقهم إلا من خاض تلك التجربة أو عايشها من خلال أحد المقربين له.
تتعدد التفاصيل وتتباين الروايات وتتنوع الحكايات ، لكنها تعكس جميعها نفس الحال التي يرثى لها والتي حولت حياة كثيرين من مستحقى المعاش إلى جحيم وتعاملت معهم تماما كمذنبين تحت المراقبة ، عليهم إثبات حسن سيرهم وسلوكهم والتردد على أقسام الشرطة للتأكد من براءتهم وخلو سجلاتهم من الجرائم.
رحلة مرهقة يتكبدها مسنون تعترف الدولة رسميا بأنهم أصبحوا خارج الخدمة بحكم سنوات عمرهم التي أفنوها في عملهم ، وحياتهم التي أهدروها أو وهبوها طواعية للإخلاص في عملهم.. يشاركهم تلك الرحلة المضنية غيرهم من الأسر التي اضطرتها ظروفها للتردد على مكاتب التأمينات لصرف معاش عن أب أو أم بعدما تغيرت ظروفهم الاجتماعية بسبب طلاق الإبنة أو عجز الإبن البالغ الحادية والعشرين عن الكسب.
لكل منهم حكاية ووراء كل منهم ظروف صعبة .. معاناة تنطق بها أجساد متعبة مرهقة ووجوه يكسوها الحزن ، وملامح تجاهد لتخفى ألما يعتصر القلوب على فقد عزيز أو خراب بيت وتدمير أسرة وأزمة أرملة أو مطلقة أو مسن ، يغالب كل منهم دمعه أملا في فتات يمكن أن يسد ولو قدرا بسيطا من احتياجات أسر تعانى في زمن صعب.
لا يجيد قراءة تلك الوجوه وتخيل معاناتها إلا من يشاركها تلك الآلام ويشاطرها جزءا من تلك الرحلة .. يفتح كل منهم للآخر قلبه بسهولة ليس فقط للتغلب على ساعات الانتظار الطويلة ، ولكن ليواسى كل منهم الآخر أو يدله بحكم خبرته على طريق ربما يكون غافلا عنه يسهل له مطلبه .. وإن كان الأمر لا يسلم أيضا من شجار محتمل بين الحين والآخر بسبب التنافس على أسبقية الحضور ، بعدما ينفد الصبر وتضيق الصدور ويحل الغضب من ملل الإنتظار ووهن أجساد فاض بها الكيل وفقدت كل قدرتها على المقاومة وتحمل الآلام.
معاناة هؤلاء لا تهم كثيرا وجوها أخرى مختفية وراء مكاتبها ، ربما لا تقل إجهادا عن وجوه أصحاب المعاشات .. ضيق الحال يبدو واضحا على هيئة موظفي التأمينات ، يجاهد أصحاب الضمائر منهم لإخفائها والتعامل برفق مع كل متردد عليهم .. بينما يبدو آخرون أكثر استفزازا ونفورا وعدم اكتراث وتعنت وتفنن في وقف المراكب السائرة والمبالغة في تطبيق لوائح دون أدنى قدر من المرونة أو الرحمة ، بل وتعمد عدم التوضيح لتطيل أمد رحلة العذاب لأقصى وقت ممكن وتنتهي إما بالضغط "لتفتيح المخ ودفع المعلوم" أو بضغط من أصحاب الوساطة ممن لهم الكلمة الأعلى لإجبارهم على تيسيير الأمور وتقديم الخدمة على أكمل وأسرع وجه ووقت.
والحقيقة التي تبدو واضحة لأصحاب ومستحقي المعاشات الذين قضوا سنوات من أعمارهم طلبا لحقوقهم ، التي أتلفتها مكاتب التأمينات ، أن المشكلة ليست فقط في الموظفين ولكن أيضا في الأجهزة العتيقة التي يتعاملون بها. شاشات كومبيوتر عتيقة تحدق عيونهم فيها وتبدو كأنها تفك لوغاريتمات .. تستغرق وقتا طويلا قبل أن تلتقط ورقة بالية تكتب فيها رقما أو وثائق وأوراقا رسمية أو شهادات ميلاد أو وفاة وغيرها تكتبها بسرعة وبخط غير واضح ، ولا تمهلك وقتا للاستفسار ، تضيق سريعا بطلباتك وتحثك بإستفزاز و"قرف واضح" للغروب عن وجهها لتسلم دورك لمبتلى غيرك وقع عليه الدور لمواجهة أصحاب الوجوه العابسة.
الحقيقة أن المشكلة لا تكمن فقط في حال موظفي المعاشات ، لكن المشكلة الأكبر في البيروقراطية التي تحكم تلك المنظومة والتي ينفذ منها كل موظف منعدم الضمير أو تكبل آخر يفتقد الكفاءة أو تجبر ثالثا عن عمد مقصود للتباطؤ ، وكأن هناك تعليمات خفية بتعقيد الأمور والتباطؤ والتلكك لإطالة صرف المستحقات لأطول وقت ممكن ، بعدما ذهبت مستحقات أصحاب المعاشات من خزانة الوزارة المسؤولة عنهم أدراج الرياح. فتكون النتيجة تلك الدوامة المرهقة التي تحول حياة أصحاب المعاشات إلى جحيم ، وربما تنقضى أعمار بعضهم دون الحصول على حقوقهم التي كفلها القانون والتي يتشدق بها الجالسون على مقاعد السلطة والمسؤولون بجميع مناصبهم ومكانتهم ، المغيبون عن المآسى التي تحدث في مكاتب المعاشات وحجم المعاناة التي يتكبدها كثيرون للحصول على فتات ، ربما لا يكفى لتلبية قدر كبير من احتياجتهم ، لكنهم مضطرون على مضض للحصول عليه تحت ضغط الحاجة وشعار أن "النواية تسند الزير".
لكن النوايا تبدو عزيزة وانقطعت المياه عن الزير ولم يشفع للظمأى تعبهم ولم تجد الأجساد الواهنة من يرحم ضعفها .. وتفرض عليهم بتعسف ، الدوران كعب داير لنفس المكتب أكثر من مرة أو من مكتب لآخر كل منهم يلقى عليه بالمسئولية متنصلا منها .. مرة بحجة عدم اكتمال الأوراق أو بطلب غريب يستلزم البحث عن أصل اسم لجد الجدود أو تصحيح خطأ موظف آخر لم يكن لصاحب المعاش أي يد في ارتكابه لهذا الخطأ ، أو بطلب عجيب من جهة العمل ليس له في الواقع أصل أو مستند يثبته أو ضاع بسبب موظف آخر أو رفض ثالث تقديمه بحكم بيروقراطية وروتين لايقل تعنتا عن تلك التي تحكم منظومة المعاشات.
محظوظون فقط من يتثنى لهم الحصول على معاشهم بسهولة ويسر وفى وقت مناسب ، وأعتقد أنهم قلة ، أما التعساء وهم فيما يبدو لي الأغلبية ، فعليهم التحلى بصبر ربما يفوق صبر أيوب نفسه ، لتنتهى رحلة عذابهم إما بالحصول على المعاش بعد جهد تضيع معه أي فرحة إنجاز ، خاصة بعدما يبتلعها غول الغلاء المتربص بجيوب وقوت المصريين بلا رحمة ، أو تنتهى تلك المعاناة بنفاد العمر نفسه ليدخل الورثة اللاحقون في نفس دوامة السابقين ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .
--------------------------
بقلم: هالة فؤاد