19 - 04 - 2024

"سنوات عصيبة" كما شهد عليها النائب العام "محمد عبد السلام"

- إضاء على فساد الستينات ، وعلاقات محسوبية بين المتورطين وكبار رجال الدولة تغير الصورة الوردية السائدة

كم من السنوات العصيبة مرت على مصر؟ .. وكم منها يمكن أن يأتي لو لم نتعلم مما فات ،  ونستخلص منه الدروس والعبر. وهذا حتى لانكرر ما كان ، وتحل بنا المزيد من سنوات عصيبة وكأنها بلا نهاية.

 في ربيع عام 1975  ـ أي قبل نحو 48 عاما ـ صدر عن دار نشر "الشروق"  بالقاهرة كتاب يحمل عنوان :" سنوات عصيبة: ذكريات نائب عام ". وصاحبه هو  المستشار "محمد عبد السلام" النائب العام في عهد الرئيس "جمال عبد الناصر" رحمه الله بين أعوام 63 و 1968. وهي سنوات مهمة لاعتبارات عديدة، من بينها أنها شهدت  تجربة التحول الاشتراكي والتصنيع والقطاع العام واستكمال الخطة الخمسية الأولى على طريقة ما يسمى"بالاشتراكية العربية". وأيضا  شهدت هزيمة5 يونيو 1967 بمقدماتها ونتائجها ، ومن بينها "انتحار" المشير عبد الحكيم عامر صديق "عبد الناصر" المقرب ونائبه في رئاسة الجمهورية وقائد الجيش ، وضرب مجموعته في الحكم ورموزها مثل اللواء " صلاح نصر" فيما عرف بمحاكمة "انحراف جهاز المخابرات"، وكذا مظاهرات العمال والطلبة 1968. وهذه السنوات تنتهى بحدث لا يقل أهمية وخطورة ، وهو "مذبحة القضاة" في أغسطس 1969، والتي لا يغفل الكتاب عن تناولها وتتبع آثارها إلى ما بعد بداية عقد السبعينيات. 

  ولا أعرف لليوم لماذا لم تحظ ذكريات النائب العام المستشار "محمد عبد السلام" بالاهتمام الذي يؤهلها ما ورد في صفحات كتابه هذا من وقائع خطيرة كاشفة ومعززة بأرقام وتواريخ القضايا والتحقيقات والمراسلات والتقارير؟.وهي بحق وقائع بالغة الأهمية والدلالة ، وبشهادة تستمد قيمتها ومصداقيتها من منصب الرجل بين كبار المسئولين في السلطة القضائية والدولة في تلك السنوات من عهد الرئيس "عبد الناصر" قبل وبعد هزيمة 5 يونيو. 

 ولست في وارد عرض ما جاء في هذا الكتاب / الشهادة. ولحسن الحظ تتوافر نسخة إلكترونية منه بمواقع في شبكة الإنترنت ، وإن كانت غير مرقمة الصفحات أو مصورة ضوئيا من الكتاب الورقي. ولكي أعثر على الكتاب في طبعته الصادرة من دار النشر تطلب الأمر جهدا في البحث واستعارة من مكتبة يتجاوز عمرها تاريخ نشر الكتاب.


المستشار يحيى الرفاعي

 بالطبع لست في وارد عرض ما تضمنه الكتاب في مقال. لكننى أود الإشارة إلى أن أهميته وجديته تنبع أيضا من نسبة وقائع الاستبداد والتسلط والفساد والمحسوبية إلى أسماء أصحابها وبمناصبها الرفيعة ، وكذا إلى من قام بحمايتهم في أعلى مراكز السلطة ، وذلك بأرقام وتواريخ تحقيقات النيابة وقضايا المحاكم.وتسمح قراءة الكتاب بإعادة النظر والتقييم لأدوار شخصيات بعضها مازال فاعلا في حياتنا العامة لليوم أو إلى عهد قريب، من أمثال : "محمد فائق" و"سامي شرف" أطال الله عمرهما ومتعهما بالصحة ، ومن في ذمة الله كـ " ضياء الدين داوود" و "على صبري" و "شعراوي جمعة" والفريق "محمد فوزي" و "سعد زايد" و "محمد حسنين هيكل"، وعدد من وزراء العدل من بينهم " محمد أبو نصير" وكبار رجال السلطة القضائية السابقين. كما لا تخلو القائمة الطويلة لشخصيات هذا العهد المقترنة بوقائع موثقة من رجل أعمال  مثل المرحوم "لطفي منصور"، وهو على صلة بتحقيقات تتعلق بفساد في تصدير القطن المصري للخارج. 

و يفتح الكتاب النظر على قضايا الفساد في سنوات هذا النائب العام وحجمها الخطير من شركات القطاع العام والمجمعات الاستهلاكية الناشئة وصناعة السيارات إلى الوزارات وجهاز رئاسة الجمهورية وغيرها. وكذا علاقات المحسوبية المبكرة بين المتورطين المباشرين في هذه القضايا وبين كبار رجال الدولة ، مع تواطؤ أعلى مستويات السلطة في حماية الفاسدين.

ولا يدعى صاحب الكتاب ولا كاتب هذا المقال أن عهد مصر الملكية السابق أو ماتلى سنوات حكم "عبد الناصر" كانت خالية من الفساد أو يدعى الحكم بأنها الأقل أو الأكثر فسادا. وفي الكتاب لا شبهة لأي مقارنات من هذا النوع. بل نلمس من صاحب الشهادة ومن موقعه المهم المطلع وكجزء من "النظام" إخلاصه وحرصه على إنجاح أهداف ثورة يوليو وتطبيق الاشتراكية وتجربة القطاع العام وغيرته على أموال ومقدارت الشعب ووسائل الانتاج المملوكة باسمه.

 ومع هذا، فإن كتاب المستشار " محمد عبد السلام" يتحدى صورا نمطية "وردية" عن سنوات الستينيات تلك ، ولعل بعضها جراء جناية داء الحنين للماضي "النوستالوجيا" .. وكل ماض. وعلى ذات القدر من الانكشاف والأهمية ، يوثق الكتاب وقائع تفيد بصراع داخل القضاء وبين القضاة ومع رجال السلطتين التنفيذية والتشريعية بشأن مكافحة هذا الفساد ومختلف أشكال انتهاك حقوق المواطنين وحرياتهم من الاعتقالات خارج القانون والتعذيب وغيرها . ويدهش القارئ للكتاب اليوم عندما يطلع على حجم مقاومة هذا الفساد وانتهاك حقوق المواطنين وحرياتهم من داخل النيابة العامة وعموم رجال القضاء ، ومن الشجاعة التي تحلت بها أعداد لافتة بينهم في الكفاح من اجل استقلالية السلطة القضائية ونزاهتها والانحياز للمواطن. 

وتبرز في هذا السياق أسماء من نور إلى جانب المستشار "محمد عبد السلام" كالمستشار "يحيى الرفاعي" رحمه الله الذي لعب دورا مقدرا ومحترما في عقد الثمانينيات. وكان بمثابة الأب الروحي لحركة استقلال القضاء وللقضاة المحترمين ومن خلال أنديتهم. وهي الحركة التي كان لها أثر وصدى في المجتمع وتاريخ مصر قبل نهاية عهد "مبارك"، وستظل ذكراها وأسماء أبطالها كالقضاة الأجلاء "زكريا عبد العزيز" و" محمود الخضيري" و "هشام جنينة" وآخرين محفورة في ذاكرة المصريين .

ومن بين أسماء القضاة المجللة بالنور في الكتاب من عاد وترك أثرا طيبا وسمعة ناصعة تحت قبة البرلمان وفي ساحة المحاماة والحياة العامة والنشاط الحقوقي إلى ماقبل سنوات كالمستشار "عادل عيد" رحمه الله. وقد ورد في الكتاب عنه تصديه وصموده لضغوط السلطة وتمسكه كقاضي عندما حكم في قضية تهريب رجل شرطة بالأسكندرية لسبائك ذهبية. وما تبع هذا من انتقام  ضمن مذبحة القضاة. 


المستشار عادل عيد

 ولعل ما في الكتاب يدعو المؤرخين لإعادة النظر في مسلمات تتعلق بقضايا مهمة مثل اعتقال وحبس الصحفي "مصطفى أمين" واتهامه بالتجسس لصالح المخابرات الأمريكية 1965 و  كمشيش 1966 ، وحتى فيما يتعلق بالمسؤولية عن انتحار "المشير" عبد الحكيم عامر "، أو بالأدق "تركه ينتحر" وتعمد عدم إسعافه والإصرار على نقله من المستشفى بالمخالفة لطلب طبيبه المعالج إلى مكان احتجازه وبعيدا عن أسرته. 

 ويقدم الكتاب شهادة بالغة الأهمية والثراء عن مظاهرات العمال والطلبة عام 1968 ومن واقع تحقيقات النيابة واتصالات النائب العام مع السلطات والهيئات، وبينها وزير الداخلية "شعرواي جمعة". ويوثق بيانات المحتجين ومطالبهم وشعاراتهم في المظاهرات، وفي مقدمتها المطالبة بمكافحة الفساد وحرية التعبير والصحافة ، مع  المناداة بإنهاء "دولة العسكريين والمخابرات و المباحث" وأكاذيب الصحافة حينها.

 وتعرض مذكرات النائب العام خلال ست سنوات من عقد الستينيات لصراع خفي تحت السطح بين سلطات الدولة وكبار رجالها حول الاعتقالات والتعذيب ، وسواء مع وزير الداخلية أو الشرطة العسكرية. كما يتضمن الكتاب نص وثيقة مهمة. وهي تقرير وضعته لجنة شكلتها وزارة العدل بعد بيان 30 مارس 1968 لمراجعة عدد من القوانين الاستثنائية ومحاولة كبح جماح المحاكمات العسكرية للمدنيين. لكن مناقشة التقرير في مجلس الأمة حينها انتهت إلى اجهاض محاولة الإصلاح والمراجعة ، وفق شهادة المستشار "محمد عبد السلام".  

ولايملك القارئ اليوم إلا أن يتساءل : لماذا ظل هذا الكتاب / الذكريات / الشهادة طي النسيان إلى حد كبير؟. وربما غطى على الكتاب فلم يأخذ ما يستحق من الاهتمام والنقاش والذيوع ، خاصة وأن النشر جرى في توقيت توالت فيه الكتب المثيرة للاهتمام والجدل. تنتقد عهد "عبد الناصر" وحكمه ، وتزيل القداسة عن "الزعيم" أو تدافع عنه وتتمسك بهذه القداسة.

وعندما أعود بذاكرتي إلى هذا الصبي فالشاب الصغير الذي كنته قارئا في هذه السنوات ، أتذكر العديد من الكتب المدوية الوقع ، والتي طالعتها وغيري في  حين صدورها ، وتابعنا ردود الفعل عليها.  ولعل من أهمها: "عودة الوعي " لتوفيق الحكيم عام 1974 و "أقنعة الناصرية السبعة" للدكتور لويس عوض عام 1975 . وإلى هذه السنوات قرأت وجيلي مبكرا كتبا في الاتجاه ذاته لاتجاري هذين الكتابين في العمق والقدرات التحليلية والأفكار وجدية المراجعات. ولكنها مليئة بوقائع أكثر إثارة تمس ضمير الإنسان حتى لو كان مخالفا لتوجهات أصحابها، مثل كتب :"أيام من حياتي في سجون عبد الناصر" لزينب الغزالي ، و سلسلة " سنة أولى وثانية سجن ..إلخ" للصحفي "مصطفى أمين". وهذا بصرف النظر عن الحكم على ما بها بين الحقائق والمبالغات والافتراءات.


المستشار هشام جنينة

وحتى بين ضحايا معتقلات عهد "عبد الناصر"  من اليساريين، قرأنا لمن بدأ في التجرؤ على البوح والنشر في كتب تصدر من القاهرة اعتبارا من النصف الثاني للسبعينيات. وأذكر من هذه الكتب على سبيل المثال لا الحصر :"في معتقل أبو زعبل" لإلهامي سيف النصر و "رسائل الحب والحزن والثورة" للدكتور عبد العظيم أنيس رحمهما الله. ولعل هذه الكتب قد غطى عليها حينها وبدورها أيضا مابدا من "انقلاب" الرئيس أنور السادات رحمه الله على رفيقه ومن جلبه إلى رأس السلطة الرئيس "عبد الناصر" في العديد من  الأوجه والسياسات. وإن كانت هناك وجهة نظر ترى أن ما فعله "السادات" هو التطور الطبيعي والمنطقي لسياسات "عبد الناصر" في سياق التحولات المحلية والإقليمية والدولية اللاحقة ، ومع شيوع وترسيخ ثقافة الخوف والسلبية وتجريد المجتمع من التنظيمات المستقلة التي بإمكانها أن تدافع عن الحقوق والمكتسبات الاجتماعية . وفي المحصلة بدا اليسار لعقود منذ منتصف السبعينيات في أغلبه مستوعبا في معارضة "تحولات السادات"، وفي معركة الدفاع عن "الميراث الناصري"، وبالاستناد إلى هذا الميراث في الاشتراكية والقومية العربية والتحرر الوطني والعداء لإسرائيل والولايات المتحدة والغرب والانحياز للفقراء والطبقة الوسطى.

  حقا يتطلب كتاب "سنوات عصيبة" المزيد من البحث في ملابسات وأسباب "تهميشه " لليوم. وهذا على أهمية ما يحتويه من وقائع موثقة تتجاوز الصراعات والاستقطابات الأيديولوجية والسياسية أو "الفرقعات الوجدانية" حول عهد "عبد الناصر". ولذا فبعدما قرأت كتاب المستشار " محمد عبد السلام"،إتصلت بدار نشره "الشروق"، فلم أظفر بمعلومة واحدة تجيب على أسئلة من قبيل: هل واجه الكتاب في طبعته الأولى ( أبريل 1975) مشكلات أو ضغوط حالت دون توزيعه أوانتشاره ؟.. وهل هناك طبعات أخرى للكتاب ؟.. وهل هناك أي معلومات إضافية عن مؤلفه غير ما احتفظت به صفحات الكتاب ؟. وهذه أسئلة للأسف لم اتمكن من العثور على إجابات لها . وفقط  أفاد من أجابني هاتفيا من دار النشر بنفاد نسخ الكتاب. بل وبدا وكأنه لم يسمع به من قبل.

 ولأن ما جاء في الكتاب على قدر من الأهمية ويستحق عناء المحاولة من موقع الصحفي و التحجج بالعبارة المدونة في كارنيه نقابة الصحفيين باللغتين العربية والإنجليزية "تقدم السلطات المختصة المعلومات وتسهل مهمته" فقد طرقت ـ في هذا الزمن الصعب على مهنتنا ـ أبوابا عديدة في أروقة دار القضاء العالي ، ووقفت بباب نادي قضاة مصر طلبا لمعلومات عن المستشار "محمد عبد السلام"، و لو اسمه ثلاثيا أو عن ورثته أو حتى صورته الفوتوغرافية بوصفه كان من بين نواب عموم ورؤساء محكمة استئناف هذا البلد.

وعدت خائبا حانقا مما وصل إليه حال الاستهانة بالصحافة والعدوان على حق القارئ والجمهور في المعرفة. وأيضا من جراء الإهمال والاستهانة بالأرشيفات والتوثيق. ولعلني بمناسبة هذه "المغامرة الصحفية الخائبة" أعود لأكتب مقالا عن تفاصيلها. وهذا نظرا لما تكشف عنه وتوثقه هذه المحاولة بشأن ما وصل إليه حال الصحافة والصحفيين ونقابتهم في سنواتنا هذه. ولكن لا يسعني الآن إلا أن أتمنى على كل من يملك معلومة عن الكتاب و القاضي المحترم "محمد عبد السلام " أن يتفضل بنشرها، أو الإتصال بكاتب هذا المقال. 

 وفي ظني أن قيمة كتاب " سنوات عصيبة" باقية بعد كل هذه السنوات وأكثر. ببساطة هو من النصوص التي تدعونا للتعلم مما كان كي لانستمر في أخطاء الماضي وكوارثه.
----------------------------------
بقلم: كارم يحيى 


واستمر تصدي القضاة في أجيال لاحقة

 


 

مقالات اخرى للكاتب

29 أكتوبر 56: العدوان الثلاثي ومذبحة عمال





اعلان