25 - 04 - 2024

المُربي علي معروف .. سريعا يرحل الطيبون!

المُربي علي معروف .. سريعا يرحل الطيبون!

تهدُف كتابتي عن أشخاصٍ بأعينهم في جانبٍ كبير منها إلي مُجاملة أصحابها بتخليد ذكرهم، وسردِ مناقبهم، التي تستفيدُ منها الأجيالُ اللاحقة بعدما يرون كيف نحتَ أصحابُها في الصخر، ولعقوا الصبر؛ ليسطروا سيرتهم في سجلات حياتنا بأحرفٍ من نور، وتهدف فيما تهدف إليه أيضا إلي سوق الطرفة والفكاهة التي ترسم البسمة علي وجه القاريء بعدما غابت عنه خلال رحلة بحثه عن لقمة العيش في سكك الحياة ودروبها، تلك اللقمة التي صار الحصول عليها أمام غول الغلاء أمنية صعبة المنال.

ورغم أن الكتابة عن أبطال حكاياتنا تكون برضا أصحابها أو ذويهم، إلا أن الكتابة عن هذا العملاق ، جاءت علي غير رغبة ابنه، الذي رغم باعه الطويل في العمل العام، إلا أنه يُحب خمول الذكر، ويرفض المواجهة، ورغما عن هذا، فقد ضربتُ بكلامه عرض الحائط، ممارسا عليه دور الخال، وعزمتُ أن أكتب عن والده، الذي صار بتعدد مواهبه شخصية عامة تستحق الدراسة، وتستأهل الذكر !

المربي الكبير علي إبراهيم معروف، رجلٌ أتقن كلَّ ما يفعل، وعمل بالعديد من الحرف،  فصدقَ عليه مثل: (سَبع صنايع، ولم يكن أبدا بخته ضايع)، إذ كُنتَ تخاله في كلِّ عمل يعمله أحدَ أرباب هذه الحرفة، بل يصغر أمامه أربابها الحقيقيون، لسان حاله ما قاله الشاعر:

سبيلُ العُلا عالٍ علي من تعللا ... ومن جَدَّ في سعيٍ لأمر تمكنـــــا

رأيتُ الثريا رُؤية النجم للثري ... وذاك لأنَّ الصعبَ ما زال مُمكنا

هو جزارٌ وقصاب، وبناء، ومبلط سيراميك، وسباك، يؤمن بمثل: ( اعط العيش لخبازه)، ولكنه يرفض لؤم (الصنايعية)، وعدم احترام الموعد، فما إن أخلف معه صاحبُ حرفة موعدا، حتي أوصد في وجهه بابه، وقام هو بالعمل أفضل ما يكونُ القيام !

في مُلحق بيته الفلاحي بني غرفَ الدور العلوي، وكان (بَنَّا ومناول)، وفي جلسة سمر سال لعابُ جلسائه إلي اللحم العائم في المَرَق، فهرع إلي جَدي وذبحه وسلخه، وطبخَه لأسرته وضيوفه .

أخلف معه مبلط الأرضيات الموعد أكثر من مرة، فتصدي لمهمة تبليط الدور الأرضي، وأنهاها بحِرفية مُنقطعة النظير، قامتْ فيها زوجته الحاجة عائشة وأختها سحر، وهما ابنتا عمتي بدور (صَبي المِعلم).

في حديث مع ابنه د. محمد علي معروف الباحث بالمركز القومي للبحوث، قال : (لم ألحقْ أستمتع بأبي، فمات قبل أن أُتم الحادية عشرة ).

ولكني قلتُ له : لم يمت أبوك، ففي بقاء سيرته الطيبة بقاء له، وصدق القائلُ :

ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميتُ ميت الأحياء

إنما الميتُ من يعيـــش ذليلا ... سيئا بالُه قليل الرجــــاء

وفي جلسة مع زوجته الفاضلة الحاجة عائشة حافظ قالت: ( الشيخ علي رجل لم يكن له نظير)، وهل هناك دليلٌ علي نُبل الرجل أدمغُ من شهادة زوجته له بعد وفاته، أظن لا ، وأعتقد أنك لا تخالفُني الرأي .

المرحوم علي إبراهيم معروف، رجلٌ عصاميٌ بحق، التحقَ كقليل من أقرانه بفصول التعليم الأزهري بعدما نبغَ في حفظِ القرآن الكريم، وحصلَ علي شهادة المعلمين، ورغم أنها كانت نهاية مطاف كثيرٍ من أقرانه ممن طرقوا باب الوظيفة الْمِيري للحصول علي القرش الأبيض لينفعهم في اليوم الأسود، الذي لم يقل سوادُه عن سواد هذه الأيام، وأُجزم أنني لا أسب الدهر؛ لكيلا يخرج عليَّ من بين السطور من يقول : ( لا تسُب الدهر يا شيخ )، فأؤكد أنني أسبُ الغلاء لا الدهر منعا للمُزايدة !

أعودُ لسيرة الرجل، فأقول إنه لم يكتف بدبلوم المعلمين، بل التحق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية، واجتاز سنوات الدراسة بتفوق، ولكنه آثر العمل في المرحلة الابتدائية، فكان إلي جانب كونه معلما لا نظير له أبا من طراز فريد، لا يضن علي تلاميذه بشرح وإعادة، ولا علي زملائه بمشورة ونصيحة، أو يقصر معهم في مدِّ يد العون سواء طلبوا أو لم يطلبوا !

المربي الراحل علي معروف طيب الله ثراه .. استضاءة وجه، وجمالُ خِلقة، وأناقة هندام، وحسن حديث، وطيبُ عشرة، وغيرها من صفات جمة قلما تتوافر في شخص واحد، أضف إلي ذلك صبره منقطع النظر علي المرض، والذي بسببه ودع سريعا دنيا الناس ، ولكن هكذا .. سريعا ما يرحل الطيبون .
------------------------
بقلم: صبري الموجي


مقالات اخرى للكاتب

د. خالد الخطيب .. مسؤولٌ تُرفع له القُبعة !





اعلان