لم أتعاطف يوما مع متسول ولا متسولة ، لم يأخذنى شعور كبير بالشفقة عليهم ولا الرثاء لحالهم ، حتى الصغار منهم رغم إحساسى بالألم يعتصرني ، لكنى كنت أقاوم التاثر بهم .. ليست قسوة ولا غلظة قلب ولا تبلد مشاعر ، لكنه يقين أن كل مايفعله هؤلاء مجرد مشهد تمثيلى هابط ومفتعل ، لاستدرار العطف واللعب على أوتار القلوب الضعيفة بطبعها ، والتي سرعان ماتستجيب لنداءات الإستغاثة فتتبرع بما تجود به الأيدي التي غالبا لاتقل حاجة ، بل أحيانا تفوق حالة من تمد يد لهم العون بؤسا واحتياجا.
ولأنى أكره التسول بكل أنواعه ، لم أضبط نفسى متلبسة بالتعاطف مع هؤلاء المحترفين ، وإن كنت أجد رغبة في متابعتهم والتعرف على الجديد من فنون احتيالهم .. أصواتهم التي تتلون وتتشكل إما مسموعة حاسمة محفزة بقوة على التأثر السريع ، وإما خافتة وهنة تستميت في تمثيل العجز وقلة الحيلة ومدى الاحتياج.
ملامح الوجه أيضا سلاح آخر لاستدرار عطف القلوب الرقيقة .. وجوه منكسرة ذليلة .. عيون تبدو منطفئة ، وإن جاهد صاحبها ليخفى بريق ماكر لا ينطلى على من يراقب تلك الألاعيب بمنظار عقله الواعى.
وبين الصوت والهيئة تأتى الطريقة التي لايكفون بالطبع عن البحث عن الجديد فيها وتطويرها وتشكيلها ، لتجذب عددا أكبر من المتعاطفين ، وتلعب من جديد على أوتار من كشف حيلهم القديمة ففقدوا تأثيرهم عليه.
تبكى إحداهن بحرقة فقد الزوج وعجزها عن إطعام أطفالها .. ويتذلل مسن شاكيا ضيق الحال وكبر السن .. ويتعلل ثالث بأنه فقد وظيفته بعد حادثة مفجعة ، ويبكى طفل على طبق "بيض" مدعيا كسره وفقده وخوفه ورعبه ممن يعمل عنده وأمره بتوصيله لمكان ما .. لم يكن من الصعب اكتشاف تلك الحيل ، بإبتسامة خبيثة تفلت من المرأة الحزينة بعدما تهبط من الأتوبيس ، أو مشية ثابتة قوية من مسن حاول ادعاء وهنه ، أو شاب حاول أن يقنعنا بعجزه ، أو ضحكة من عيون الصبى تفضح كذب بكائه وتكشف أداءه التمثيلى الهابط ..
ولا أدعى بالطبع أن كشفى لتلك الحيل وعدم تعاطفى مع المشاهد المفتعلة لمحترفى التسول جاء بالصدفة وبوازع نفسى خاص ، لكنه بالطبع نتج عن تاثر بكثير من المشاهد السينمائية التي أجادت فضح امبراطورية المتسولين ، ودفعتنى والكثيرين معى لإتخاذ تلك المواقف التي تبدو قاسية معهم .
ومن الأفلام لكلمات المبدع الكبير الأديب الراحل نجيب محفوظ في روايته "زقاق المدق" حيث تجلى أكثر الوجه القبيح لمملكة الشحاذين .. رسم محفوظ صورة لصانع العاهات "زيطة" الذى يقطن الخرابة الملحقة بالفرن ، مكان يليق به وبوجهه الذي يبدو "كشيطان يصلح أن يستعين به الآباء على تخويف أبنائهم".. هكذا أراد محفوظ أن يسبغ على وجهه ما يكمن في نفسه من شر وقبح ، كان يأتيه "الأصحاء" ويغادرونه عميانا وكسحانا وحدبا مبتورى الأذرع والأرجل.
ولم يتوقف عمل زيطة على ذلك ، بل برع فيه لدرجة أنه أدخل عليه "فن المكياج" الذى أتقنه من عمله السابق في السيرك ، وابتكر أيضا أساليب جديدة للشحاذة منها ادعاء البله أو الورع .. تبعا لقدراتهم الجسدية واستعدادهم النفسي ، وبذلك أصبح بمثابة ملك الشحاذين يفرض سطوته عليهم ويحصل مقابل العاهات التي يقوم بها على نسبة من إيرادهم اليومى من الشحاذة ، إضافة إلى عمولته عن تكاليف العملية.
ليس غريبا إذا ألا يأخذ البعض منا ذلك الموقف الذى يبدو قاسيا مع الشحاذين ، خاصة بعدما تكشف لنا صفحات الحوادث ، بين الحين والآخر ، عن الكنوز والملايين التي يعثرون عليها في حوزة أحد المتسولين بعد وفاته ، أو يكشف لنا آخر عن متسول طور نفسه ووضع أمواله في البنك ليسحب منها القليل وينسى سحب الإيصال ليحصل عليه من جاء بعده ويكتشف حجم الثروة التي لا تتناسب مع هيئته وملابسه الفقيرة الرثة.
تضافر الواقع والخيال لتزداد قناعتى بعدم التعاطف مع المتسولين ، ورغم ذلك أجدنى الآن أميل لتغيير تلك القناعة أو بالأدق أصبحت أكثر تأثرا بحالهم أو بما يدعونه من ضيق الحال.
أشعر بدرجة ما من الشفقة ، تجعلنى حزينة لحال ذلك الرجل المهندم يبدو من هيئته أنه عزيز قوم ذل أو هكذا يريد أن يتقن دوره .. رغم الشك أجدنى أتعاطف مع كلماته ، ضاق به الحال ، لم يعد قادرا على تلبية احتياجات أسرته ، غير قادر على إطعام أولاده أو دفع مصاريف مدارسهم أو شراء ملابس وأحذية عوضا عن تلك البالية.
ومثلما تأخذنى بعض الشفقة عليه ، أشعر بالتعاطف مع تلك السيدة التي تقسم بأغلظ الأيمان أنها مهددة بالطرد من بيتها هي وبناتها ، لأنها عاجزة عن سداد إيجار الحجرة التي تأويهم بعدما تراكمت ديونها لشهور ، لم يعد صاحب العقار يتحمل المزيد من المماطلة وأتخيل أن حاله لن يكون أفضل حالا منها .. فبديهى أن عقارا تسكنه مثل تلك المهمشة ، لن يكون سوى عقار فقير بسيط ، وربما آيل للسقوط. رغما عنى أصبحت أرثى لحال من يحمل روشتة دواء طالبا العون على شرائها لمريض يعاني الألم ، فوق العجز والفقر وقلة الحيلة.
أتعاطف الآن رغما عنى بدرجة ما معهم ، رغم أن موقفى من المتسولين لم يتغير ، وقناعتى بأدوارهم التمثيلية المفتعلة لم يتبدل ، لكنه الحال الصعب الذى نعيش فيه جميعا .. كم منا ينتابه القلق والخوف من عجز عن تدبير قوت يومه؟. كم منا يحسب ما بيده من مال مهما بدا كبيرا ويضع يده على قلبه ويتبتل إلى الله أن يكفيه بقية الشهر؟. كم منا أخذ يسحب من مال يدخره وقت الحاجة والظروف الصعبة؟ كم منا يشعر بالعجز إذا ما أصابه مرض ليفاجأ بمبالغ فلكية لكشوف الأطباء ، ومثلها قيمة شراء العلاج والأدوية التي لا تشفى المرض ، بقدر ما تضيف إليه من ارتفاع الضغط والسكر وربما الإصابة بالجلطات؟ كم منا أخذ يقتصد من احتياجاته الأساسية مكتفيا باقل القليل.. فتكاد تخلو عربة المستلزمات والطلبات بعدما كانت ممتلئة ، وإذا بها تتناقص مع كل خطوة يخطوها نحو "الكاشير" حتى تقتصر على مايمكن أن تتحمله الميزانية الهزيلة؟
كم منا يشعر بالخنقة وهو عاجز عن تلبية احتياجات أولاده؟ وكم يخشى يوما يعجز فيه عن دفع إيجار منزله؟
كم منا تتأخر إجراءات صرف معاشه ، ويعجز عن صرف مكافآت نهاية خدمته ، فيضيع حلمه بأن تعوض تلك المكافآت مايعجز معاشه الهزيل عن تلبيته .. ويضيع أمله في تزويج البنت والإبن بعدما ضاعت الأموال التي كان يعول عليها لتحقيق تلك الآمال ، بسبب إجراءات روتينية عقيمة تحكم في الغالب عقول موظفين ذوى عقول متحجرة أكثر إنغلاقا وتعسفا ، وأقل مرونة في التعامل مع اللوائح ، وأكثر فشلا وعجزا في التعامل مع أجهزة كومبيوتر عتيقة بالية عفا عليها الزمن؟ هل يشعر أحد بمعاناة هؤلاء البؤساء؟
غول الغلاء الخانق المستمر في وحشيته وقبضته ، متربص بالجميع لايسلم أحد منا باختلاف مستواه الطبقي والاجتماعي وقدرته المالية .. أصبحنا كلنا في الهم سواء ، الجميع يعاني ، وأصبحنا جميعا على باب الله ، وإن كنا لا نقول ولن نقول أبدا "عشانا عليك يارب". ربنا يستر.
--------------------------
بقلم: هالة فؤاد