رحم الله الدكتور "محمد عناني"..
كان أستاذي على الرغم من أنني ودفعتي طلبة كلية الإعلام / جامعة القاهرة لم ننل شرف وفائدة ومتعة التعلم منه إلا لنحو ثلاثة أشهر في السنة النهائية خلال العام الدراسي 79 / 1980. لم أكن من بين أجيال توالت من طلبته في كلية آداب القاهرة (قسم اللغة الأنجليزية). أولئك الذين نهلوا من علمه وفضله سنوات ومواسم دراسية كاملة. لكنها نحو الساعتين في الأسبوع لثلاثة أشهر كانت كافية بالنسبة لي كي أظل أتذكره ما حييت، وأترحم عليه اليوم مع رحيله.
استطاع الدكتور "عناني" من المحاضرة الأولى في الدراما ضمن مادة " فكر معاصر" التي تنوعت محتوياتها مع محاضريها أن يكسب عقلي ووجداني، ومن الجولة الأولى. ساعدني إخلاصه للعطاء العلمي الممزوج بحب تلاميذه، وغزارة معارفه، و تخلل محاضراته أداؤه التمثيلي الخلاب لمقاطع من المسرحيات العالمية بفصحى عربية رائقة، في التغلب على حاجز أيديولوجي نفسي كاد يمنعني عن محاضرته الأولى. لكن ما إن حضرتها إلا وجذبني إليه وإلى فيض علمه ومعارفه، فأصبحت مدمنا على الحضور له، مستمتعا بكل لحظة منها، ومتشوقا للمزيد ، فحزينا آسفا على إنتهاء محاضرته من مادة الفكر المعاصر.
اليوم مع رحيله عن 84 سنة، أدرك بأنه كان قبل سنوات قليلة من محاضراته لدفعتي عائدا من رحلة الدكتوراه في جامعة "ريدنج" ببريطانيا،والتي حصل عليها عام 1975. لكنني حينها ـ أي قبل نحو 42 سنة ـ كنت على علم بأنه واحد من تلاميذ الدكتور "رشاد رشدي" مع رفيقيه الدكتورين "سمير سرحان" و"فوزي فهمي" رحمهما الله.
حينها كان نزق الطالب اليساري الذي كنته من شأنه أن يصنع بيني وبين كل ما يمت بصلة "لرشاد رشدي" جدارا لايسمح برؤية واضحة أو بتمييز بين "رشادالأستاذ" وتلميذه " محمد عناني" المحسوب وآخرين من زملائه عليه. وكان " رشاد رشدي" قد أمعن في نفاق الرئيس "السادات" في سنواته حكمه الأخيرة الأكثر قسوة وتأزما وصداما مع انحيازاتنا وقناعتنا.
ولم يكن الأمر يتوقف فقط على ممجوج نفاق "رشاد رشدي" لحاكم زادت نزعته التسلطية مع إصابته بـ "جنون العظمة" جراء أضواء وعدسات الإعلام الأمريكي والغربي بعد زيارته للقدس المحتلة في نوفمبر 1977. بل كان على البال دوره من موقعه القيادي في المؤسسة الثقافية الرسمية في إغلاق مجلات ثقافية أسهمت في تكويني وجيلي ، وذلك مع سعار "إمسك شيوعي .. إمسك يسار" وهذا على غرار "المكارثية الأمريكية" في خمسينيات القرن الماضي ، والتي لم يسلم من شرها حتى الفنان العالمي "شارلي شابلن".
فجأة اختفت وتوقفت قبل منتصف السبعينيات مجلات "الكاتب" و"الفكر المعاصر" و"المجلة" وغيرها الصادرة عن وزارة الثقافة، أو جرى اختطافها من محرريها وكتابها. وهذا على الرغم من أنها لم تكن جميعها تصدر قبلها بهيئات تحرير من اليسار. وأغلق الراحل "يوسف السباعي" بدوره مجلة " الطليعة " اليسارية الصادرة من مؤسسة"الأهرام" إثر الانتفاضة الشعبية ضد السياسات الاقتصادية للسادات مطلع عام 1977.
ولم أجد أمامي كشاب يتطلع للثقافة والأدب، ويلتمس مجلاتها وإصدارتها عند باعة الصحف سوى مجلة "الجديد" برئاسة "رشاد رشدي". وحاولت متابعتها، فلم استطع صبرا على شرائها وقراءتها. وسرعان ما قاطعتها وما على شاكلتها من مجلات ثقافية وأدبية تصدر في بلدي. واتجهت وغيري لاستنشاق الهواء من نوافذ للثقافة والأدب تأتينا في إصدارت من الكويت والعراق.
أعود لهذه الذكريات عن مجلات وإصدارات الثقافة في عقد السبعينيات من القرن العشرين وعن السطوة التي أحاطت بالدكتور"رشاد رشدي" في الجامعة والمؤسسة الرسمية للثقافة وعلى خشبة مسرح الدولة. أعود لأتأمل اليوم كون هذا النفور تجاهه وجماعته لم يكن محض أصداء صراع بين اليسار واليمين على جبهة الثقافة والفنون في مصر السبعينيات. بل كان لهذا النفور حيثياته وأبعاده وكوامنه الأخرى، وفيما يتصل بعلاقة المثقف بالسلطة.. وأيا كان هذا المثقف وكان توجه السلطة.
أعود اليوم لأتأمل وأدرك أهمية "محمد عناني" الأستاذ والمترجم والمثقف والكاتب المسرحي الذي حطم بإخلاصه وأدائه واستقامته العلمية عندي ـ وربما عند غيري من أمثالي ـ هذا الجدار من العزوف والنفور الذي أقامه أستاذه "رشاد رشدي". كما يمكنني أن أتأمل وأدرك اليوم تميزه بين قرينيه وزميليه "سمير سرحان" و " فوزي فهمي". ومع كل التقدير لهما ولجهودهما ، وحقا لم يكونا بالضبط على عين ما صنع "رشاد رشدي" بتلاميذ آخرين له كالراحل الدكتور "نبيل راغب". ولكنني أعتقد أن "عناني " ظل مخلصا لعمله كأستاذ جامعي ، وعمله في الترجمة والكتابة المسرحية والنقدية كراهب بعيد عن أضواء السطة ومغرياتها. كرس نفسه وحياته لهذا العمل والانتاج المعرفي، ودون أن ينساق كرفيقيه لإغراءالمناصب القيادية في المؤسسة الثقافية، ومعها الكتابة بانتظام في الصحف السيارة، والظهور في معية الرؤساء والوزراء مستلبا ومؤديا الدور المطلوب منه في حمى المهرجانات والمؤتمرات والمعارض.
وأعترف اليوم نادما مع شغفي بالمسرح والمسرحيات لعقود من حياتي منذ الصبا والشباب بإنني لم أهتم بالقدر الواجب بالمسرحيات التي ألفها "محمد عناني". و لايمكنني أن أنكر فضله أيضا في بتعريف القراء وإمتاعي شخصيا بكتاب مسرحيين أوروبيين ونصوصهم التي ترجمها قبل عقود لجيل جديد حينها من أعلام مسرح " العبث " و" اللامعقول"، مثل البريطاني " هارولد بنتر". ولقد أسهم ورفيقاه في تعريفنا بهذا الجيل من أعلام مابعد جيل الحرب العالمية الثانية: " أزبورن" و" يونسكو" و"أرابال" و"شحادة " وغيرهم.
وربما ظلمت وجيلي ظلما تاما كاملا الدكتور"عناني" عندما لم نقرأ كما ينبغي باهتمام ترجماته لمسرحيات "شكسبير". فقد أدركنا قبلها ترجمات غيره كـ " جبرا إبراهيم جبرا"، وحتى ما توارثناه عمن قرأوا قبلنا من ترجمات "خليل مطران" الشكسبيرية. وأخال ترجمات أستاذي " عناني" لشكسبير لاتخلو من إضافة وتميز.وإلا لم أجهد نفسه وتعب من أجل ترجمات جديدة لها.
عندما علمت بخبر رحيله، هاتفت زميل دفعتي الإذاعي اللامع الدكتور " عبد التواب مصطفى"، فأنعش مشكورا ذاكرتي بأن الدكتور "محمد عناني" عندما كان يحاضرنا ويعلمنا نحن طلبة السنة النهائية بأقسامها الثلاثة (صحافة.. وإذاعة وتلفزيون .. وعلاقات عامة) بالمدرج الرئيسي لكلية إعلام، والتي احتفلت العام الماضي 2022 بخمسين سنة على تأسيسها، طالما أوصى بإجادة المترجم للغته الأصلية بنفس إجادته للغة الأجنبية التي ينقل عنها. وعندما أعود للحوار المتميز الذي أجراه الصديق والزميل الدكتور "محمود القيعي " معه ونشرته "الأهرام" بعدد 15 أبريل 2020 يلفت الانتباه قول أستاذنا "عناني" إن القرآن والمتنبي هما الملجأ الأول والأخير له ولغيره من دارسي اللغات الأجنبية الطامحين إلى إجادة اللغة العربية.
رحم الله أستاذي الدكتور "محمد عناني" .علمني لنحو ثلاثة أشهر، وكانه علمني دهرا وإلى اليوم . وكيف لي ولغيري من زملائي بكلية الإعلام جامعة القاهرة نسيان هذا الأداء الدرامي التمثيلي الرائع الملهم بنبرات الصوت وبفيض الأحاسيس بالغة التنوع والثراء.. والعمق . وبالنسبة لي فإن مقاطع من المسرحيات العالمية الكلاسيكية بصوته وأدائه الخلاب ستظل محفورة في ذاكرتي ووجداني. لا يضاهيها إلا ماكان يتحفنا به أستاذنا الدكتور "فخري قسطندي " رحمه الله في محاضراته بمعهد النقد الفني بين عامي 83 و 1985، وبنفس مستوى الإمتاع والعمق في أداء درامي تمثيلي ساحر، ومن ذات مدرسة الإخلاص والعطاء.
.. اليوم رحل أستاذ مثقف عظيم آخر.. وداعا المثقف والمبدع الدكتور "محمد عناني".
-------------------------
بقلم: كارم يحيى