تلعب غالبية خطابات الفضائيات واليوتيوب دورا بارزا في تشكيل رؤى وأفكار الشباب المصري، هذا الشباب الذي تزايد مخاطر التعصب السياسي لديه أخيرا، إذ يرتبط التعصب السياسي بالانحياز السلبي أو الإيجابي لصالح أو ضد أنظمة سياسية بين فئتين أو أكثر، بما يعني وجود تقييم سلبي أو متحيز تجاه السلطة. وقد توصلت أطروحة الكاتب والباحث أحمد مصطفى عن "أثر التعرض لقنوات اليوتيوب والفضائيات على التعصب السياسي لدى الشباب المصري.. دراسة تطبيقية" والتي حصل بمقتضاها أخيرا على درجة الدكتوراه، إلى نتائج كاشفة عن الكثير من تناقضات المشهد المصري سواء عبر برامج الفضائيات أو قنوات اليوتيوب.
جاء اختيار الباحث لفئة الشباب كونهم الفئة الأكثر استخدامًا لليوتيوب، والمستهدفة من الفضائيات، كما أنها الأكثر فاعلية في الحراك السياسي، كيفما كشفت الانتخابات أو الثورات (يناير 2011، أو يونيو 2013)، إذ تتجه إلى الثورية أو الانسحاب أو الانعزال عن المشاركة السياسية، أو الوقوع في استقطاب الاتجاهات المتطرفة فكريًا، وبالتالي تشكل أهمية وخطورة، لتكون فاعل نمو أو هدم للنظم.
رصد الباحث تأثير كل من الفضائيات واليوتيوب معًا على التعصب السياسي لدى الشباب، وآثار هذا التعصب على اتجاهات وسلوكيات الشباب، مقرونًا بتحليل أبعاد خطاب الفضائيات واليوتيوب تجاه القضايا القومية في هذا التوقيت المهم من تاريخ البلاد، ومعرفة علاقتها بالتعصب السياسي لدى الشباب، أملاً في التوصل لتوصيات واضحة إزاء مستقبل أفضل. حيث عدم الاكتفاء بتقييم الشباب للقنوات الفضائية واليوتيوب وآثارها، لكن التعمق في معرفة أسباب التقييم ومسبباته، وصولاً لرصد العوامل الديموجرافية والاتجاهات السياسية والمهنية المؤثرة على اتجاهات التعصب، مع اختبار العلاقة بين عدائية التغطية واتجاهات التعصب السياسي وأبعادها.
استخدم الباحث في أطروحته منهج المسح الإعلامي بشقيه الوصفي والتحليلي، وباستخدام البحوث الوصفية، عبر الأسلوبين الكمي والكيفي، وباستخدام أداة الاستبيان التي تم استخدامها على عينة من 946 مفردة ممثلة لعدد 23 محافظة، وكذلك باستخدام أداة تحليل الخطاب الإعلامي المطبقة على 8 برامج، بواقع 4 بالفضائيات و4 باليوتيوب، خلال فترة التطبيق من 1 يناير 2019 وحتى 1 فبراير 2022.
وقال أن تلاقى تحليل الخطاب الإعلامي مع نتائج الدراسة الميدانية كشف عن بلوغ العدائية لوسائل الإعلام إلى درجة "عدائية متوسطة" بنسبة 59.7% تلاها "عدائية مرتفعة" بنسبة 21.6%، مقرونًا ذلك بالعوامل المؤثرة على العدائية، التى كشفت عنها مقاييس الدراسة، وهي:مقياس الانغماس: تصدر مستوى "انغماس متوسط" بنسبة 53.7% يليه "انغماس مرتفع" بنسبة 27.2%.مقياس الثقة في القنوات الفضائية بمستوى "متوسط" 41.8% يليها "ثقة مرتفعة" بنسبة 41.4%، أما مقياس الثقة في اليوتيوب، فبلغ مستوى "متوسط" بنسبة 51.3% يليها "منخفضة" بنسبة 28.1%.الإقناع: انحاز غالبية العينة إلى أن تأثير وسائل الإعلام سيكون على الآخرين بينما لا يحدث معهم، وشمل 70.2% ينحازون إلى ذلك وهو مجموع، أوافق إلى حد ما بنسبة 42.4%، وأوافق بنسبة 27.8%.
ولفت إلى أن ذلك يتفق مع الحقائق العلمية القائلة بأن المرجح ظهور الأثر العدائي لوسائط الإعلام عندما يقوم المشاركون بتقدير آثار وسائط الإعلام ذات النطاق الواسع على الآخرين، كما علاقة التأثير العدائي بتقييم أداء وسائل الإعلام تجاه غالبية الجمهور، والتي كان اعتقاد العينة بأنها تعكس وجهة نظرهم بنسبة 59.9% وهو مجموع أن وسائل الإعلام تعكس وجهة نظر غالبية الجمهور بنسبة 31.3%، وأن الفضائيات واليوتيوب التي انحازوا إليها تعكس وجهة نظر غالبية الجمهور بنسبة 28.6%، وهو يعني مشاهدة وسائل الإعلام بنظرة متحيزة إلى ذواتهم.
وحول خصائص الرسالة التي تحملها برامج القنوات الفضائية وقنوات اليوتيوب، قال الباحث "اتضح فيما أثاره الخطاب من قضايا خلافية تتلاقى أو تتنافر مع المبحوثين ميدانيًا، كالمبالغة ومجاملة المسؤولين كأكثر أسباب عدم تفضيل متابعة القنوات بنسبة 60.4%، يليها انحيازها لطرف واحد وغياب الحياد بنسبة 40.2%، وتراجع العناصر المؤثرة على مواجهة العدائية لتزيد حدتها، كالتزام الحياد وعرض وجهات النظر بنسبة 25.9% وبالمرتبة الخامسة بينما المصداقية والوضوح ودقة التناول بالمرتبة السادسة وبنسبة 25.7%، وهي أمور لاحظناها بالدراسة الكيفية لتحليل الخطاب.
وأكد أن ذلك يدل على أن هناك علاقة طردية موجبة، إذ إنه كلما زاد التعصب السياسي ارتبط بتقييم التغطية الإعلامية، مما يشير لخطورة القيم المهنية، كما تبين صعوبة رصد ذلك إذ أن رفض المبحوثين للانحياز والمبالغة لا يرتبط بالتعصب،كانحياز المبحوثين لخيار الموضوعية وعرض وجهات النظر بالمرتبة الأولى بمتوسط 72، بما يتناقض مع انحيازهم إلى وجهة نظر واحدة، وذلك في ضوء الآليات المعرفية الإدراكية للتأثير العدائي.إلى جانب علاقة فقدان المهنية بتغذية التعصب الخفي وممارسة التمييز، وغياب النقد الإعلامي، مما يدل على سمات المتعصب في الظهور بالمظهر اللائق، إذ من لديهم اتجاهات تعصبية لا يمكنهم مشاهدة التهويل والمبالغة، ويستخدمون الإطراء المخالف للحقيقة تجاه وسائلهم الإعلامية أو تجاه ما يؤمنون به من قضايا.
وأضاف "يمكننا الإشارة للعلاقة بين خطاب الفضائيات واليوتيوب وأثر التعصب لدى الشباب تجاه القضايا، إذ إنتعصب الفرد المسبق أسهم في الاستغراق والإقناع والثقة، وفي الوقت ذاته، نجد أن طبيعة المهنية كالانحياز والمصداقية وغيرها تؤثر على اتجاهات العدائية والتعصب لتأثيرها على الرسالة الإعلامية، فقد كشفت الدراسة الميدانية عن تراجع الحياد وعرض وجهات النظر ليصل إلى المرتبة الخامسة بنسبة 25.9% وكذلك المصداقية والوضوح ودقة التناول بالمرتبة السادسة بنسبة 25.7% بما يتلاقى مع الدراسة الكيفية التي توصلت لذلك.إذ تراجع العناصر المؤثرة إيجابيًا والتي احتلت نسب ما بين 7.2% حتى 14.6% بالمرتبة الخامسة عشرة وحتى الحادية والعشرين وكانت (غياب الحجج المنطقية، عدم لياقة مقدم البرنامج وعنفه وحدته، شيوع العنف اللفظي، تجاهل استضافة مصادر صادقة وقوية كالعلماء والخبراء أو تجاهل المسؤولين) وكلها أمور ترتبط باتجاهات التعصب والعدائية وإن لم تكن حادة التأثير على فئة الشباب وبلغت مستوى متوسطًا.
وتابع الباحث "هذا بجانب تأثير خصائص الرسالة وفق نظرية الاتجاه العدائي وتساير طبيعة الدراسة لكونها قضايا خلافية تحتوى على اهتمامات ومصالح متعارضة، أو كونها قضايا بارزة كالقضايا القومية بما يدعم شدة الإنتماء لعضوية جماعة معينة، خصوصًا والشباب لديهم انتماءات متنوعة، أي حدة التعصب يساهم بحدة الاتجاه العدائي، وحدة العدائية تساهم بزيادة التعصب.كما أسهم خطاب القنوات الفضائية واليوتيوب في تأكيد الانحياز لاتجاه واحد، نظرًا لوجود نقص في التوازن والحياد وعرض وجهات النظر أو العرض المتعمق للحقائق ووضوح كافة المعلومات والأبعاد المختلفة، هذا إلى درجة أننا وجدنا خطابًا يحض على الكراهية أحيانًا، ويتضمن ألفاظًا عنيفة وإقصاء للآخر بالبرامج.
وبين الباحث نتائج التعصب والعدائية، والتي ظهرت في السلبية السياسية والتلقى السلبي للإعلام، وكذلك أشكال ممارسة حرية الرأي والتعبير، إذ انحازت نسبة 83% إلى عدم المشاركة السياسية مقابل نسبة 17% تشارك، كما كانت نسبة 74.4% من الشباب لا يعبرون عن رأيهم بالفضائيات أو اليوتيوب، وإن وجدت أشكال ممارسة بسيطة كالنقر على أعجبني بتكرار 112% يليه الاشتراك في القناة، بينما تأخر خيار المشاركة باليوتيوب والفضائيات لتصل لتكرار 59.5% فقط، وتمثلت أسباب السلبية في أن هناك عشرات الآراء المعبرة أو عدم وجود رغبة أو قدرة على ذلك سواء أكان للاعتقاد بأن كل الأمور جيدة أو أن الحكومة لن تهتم بآرائهم.
أما من الناحية السياسية فقد تبين أن نسبة 97% من المبحوثين غير مشارك في حزب سياسي، ونسبة 3% فقط لديها عضوية حزبية، لذا كان من الطبيعي تصدر خيار: لا أدعم أي توجه ليشير لضعف الوعي وانتشار المشاركة السياسية السلبية، بينما انحاز إلى توجه الدولة نسبة 15.8% وتراجعت التيارات السياسية كالليبرالية 1.1% والليبرالية الجديدة 0.8%، واليسار بنسبة 0.5%، وهو أمر يساير انحياز نسبة 23.9% من شباب المبحوثين إلى الاعتقاد أن إبداء الرأي الشخصي المخالف غير مؤثر على الجمهور المؤيد، وتلاه مباشرة تجنب إبداء الرأي خوفًا من السب والتشهير والتخوين بنسبة 23.6%، مما يؤكد حدة مناخ التعصب والعدائية.
وكشف عن وجود تأثير معاكس لما هو معروف من أن العدائية تحفز اتخاذ إجراءات تصحيحية كالاتصال بالمسؤولين العموميين، أو الانضمام إلى مظاهرة أو التوقيع على عريضة. إلا أننا وجدنا ظهور اتجاهات تصحيحية سلبية كالرغبة في الهجرة والسفر، والاستفادة الشخصية، واقناع الأصدقاء والأقارب بدائرة المحيطين فقط، بينما تأخرت الإجراءات الإيجابية كتقديم مقترحات أو الاحتجاج السلمي أو الانضمام لحزب.
في تحليله للخطاب لاحظ الباحث أن غالبية خطابات الفضائيات واليوتيوب اتسمت بتغييب الخطاب الإعلامي لصالح الخطاب السياسي، كالاعتماد على لغة إنشائية وكثافة المجاز، ومحاولة منطقة الأمور، وتصغير بعض الحقائق، والاعتماد على المبالغة، إلى أن صار الرأي معلومة في بعض الأحيان. وارتبطت غياب المهنية الإعلامية بالتعصب السياسي، كيفما التنميط الخاطئ، والتمييز، والتعميم، والتشويه، والانحياز، والميل الذاتي، وتقديم حقائق بغرض الوصول إلى استنتاج زائف. أيضا تبين افتقاد المعالجة الجادة والمتعمقة والرؤيوية وعلاقتها بالتعصب السياسي، بسبب انحياز القائم بالاتصال عبر القنوات الفضائيات واليوتيوب، ومن ثم غاب طرح الحلول ونقد الواقع، مما يتسبب في خسارة الوطن للجهود.
ورأى الباحث أن التعصب السياسي ارتبط بقنوات اليوتيوب والفضائيات بسمات خطاب الكراهية، حيث التحريض على العنف والكراهية الموجه. كما ارتبط باستخدام البراهين العقلية والعاطفية في اتجاه واحد، ولأجل مضمون معين ثابت حسب كل برنامج، لغلق تصور المتابع وزيادة التعصب مع أو ضد. وعندما يزداد التعصب يزداد توظيف المرجعيات التي يستند إليها الخطاب، كالمرجعية الدينية والتاريخية، والتسويقية, والثقافية.
ولاحظ الباحث فيما يخص الدراسة الميدانية المطبقة على الشباب، أن الفضائيات واليوتيوب تصدرت أهم مصادر المعلومات لدى الشباب عن القضايا القومية، إذ كانت من أهم سبعة مصادر من بين سبعة عشر مصدرًا، بما يعكس أهميتها، وإمكانية تأثيرها في بناء اتجاهات التعصب أو التسامح. وكان في ذلك الفضائيات الحكومية بالمرتبة الأولى بمتوسط 9.1%، تلاها الفيس بوك بمتوسط 8.2%، ثم الفضائيات العربية بمتوسط 6.9%، ثم القنوات الفضائية الخاصة بمتوسط 6.8، ثم قنوات اليوتيوب التابعة لجهات ومؤسسات بمتسوط 6.1%، أما المرتبة السابعة فكانت لكل من قنوات اليوتيوب التابعة لأشخاص، والصحف الإلكترونية، والمعارف والأقارب والأصدقاء بمتوسط 5.7%، بما يشير لتساوي الترتيب والأهمية بين قنوات يوتيوب لأشخاص وبين المعارف والأصدقاء الذين يحيطون بالمبحوثين.
وتمكن الباحث من قياس أثر التعصب السياسي بعد التعرض للفضائيات واليوتيوب، إذ تصدرت المشاعر السلبية، كمعيار التعصب عبر غياب العدالة في التحيز والتمييز، أو معيار اللاعقلانية في إصدار أحكام بدون أدلة، ومعيار عدم الرضا كالخوف أو الرفض للآخر، إلى حد تصدر الشعور بالضيق لكون المعلومات التي لا يؤمن بها المبحوث لا يؤمن بها الجميع، تلاها الشعور بالحزن والعجز ورؤية الشيء الأفضل على النقيض تمامًا، وكذلك الشعور بالإنزعاج.
وبين أن هناك علاقة بين التعصب السياسي وبين حرية الرأي والتعبير، إذ في مناخ التعصب لا يعبر المبحوثون عن آرائهم بنسبة 74.4%، بينما تصدرت أشكال التعبير في مجرد النقر على أعجبني بقنوات اليوتيوب أو الفضائيات على اليوتيوب وذلك بالمرتبة الأولى، تلاه الاشتراك في قناة اليوتيوب أو الفضائية نفسها.بينما كانت أسباب تجنب التعبير عن الرأي خلال الإعلام هو انحياز المبحوثين إلى المشاركة في الحوارات الحية مع الأصدقاء والمعارف بنسبة 71.9%، مما قد يؤدي لمناخ التعصب في الانحياز لمن يشابه أفكارهم واتجهاتهم، دون وجود منطقة وسطى آمنة للسلام الاجتماعي.
-------------------------
تقرير - محمد الحمامصي