لا ينقضي عجبي مِن صاحب الطموح، فهو يريد أن يصل لأهدافه في وقت قصير؛ ظناً منه أنّ وصوله للتميز هو آخر مراحل حياته التي سيسعد بعدها ، فلا يشقى أبداً، لكن يغيب عليه أنّ أغلب النجاحات يصل إليها الشخص بعد قدرٍ كبيرٍ من الجهد ، وبالتالي لا يصل إلّا منهكاً متعباً من طُول الطريق ومواصلة السير ، فلا يشعر وقتئذٍ بروح السعادة التي كان ينتظرها ويرجوها.
يقف المرء مبهوتاً حائراً كلما علم أن شخصاً كان بالأمس مجهولًا ، لا يمتلك أيّ سبب من أسباب النجاح ، ثم بعد مصابرته ومثابرته بدأ يخطو نحوه خطوات ثابتة ، فأحرز المزيد من التقدم ، وصار علماً يشار إليه في تخصصه ومعارفه ، كان من المفترض حينئذٍ أن يستنهض هذا النجاح سعادة وفرح الجميع خصوصاً أصدقاءه وعارفيه ، وأضعفُ الإيمان أن يكون محل ثناء وتقدير من الجميع ، ويدفع نجاحه ببعض الرّغاب إلى اتخاذه قدوة لهم ، لكن عادة ما تكون النتيجة على خلاف المتوقع ، فيبدو المجتمع بعد نجاحه كأنّه في معزل عنه ، يتجاهل كثير من الناس إنجازاته ، ولا يقف الأمر على مجرد التجاهل به ، بل يتحول الناس شيئاً فشيئاً إلى أعداء لِدَاد ، وتُظهر كثيرٌ من الشخصيات وجهها المعادي لهذا الرجل ، وإنّه لمن الخطل في الرأي - من وجهة نظري - أن ينتظر الناجح تحصيل الإشادة من أحد ، أو طلب الثناء من غيره ، أيضاً يكاد تكون من صفاتنا المستقبحة أننا أناس لا نساعد أحداً على نجاحه ، نعم قد نتحمس في البداية لشخصٍ ، لكن سرعان ما تتحول هذه النظرة بعد دخوله طريق النجاح ، أو عده من فئة المتميزين ، لا أجد تفسيراً معيناً لهذه الظاهرة ، هل ترجع للحالة النفسية ، أم الغيرة المهنية، لكنّي على أية حال لا أتخيل إنساناً سويّ النفس رضي الطبع يكره أن تنجح الأعمال ولو كان نجاحها على يد عدوه ، ولطالما كنتُ أعجبُ للحماسة التي يبديها البعض حين ولوغ شخص ناجح أولّ طريق الإنجاز ، لأنّ هذه الحماسة تتبدد مع مرور الوقت ، وربما قوبلت بعداوة شديدة.
نعم قد تكون العداوة مخفية لا تظهر في حديث أو موقف ، لكنّ الرجل البصير بنفوس الناس يَعرف من ثنايا الكلام وما يكون في لمحات الوجه ما تخفيه القلوب ، ومن أشدّ الآفات التي تلحق بالناجح تغير حاله في عيون أصحابه ، والغالب أنّه لا يستطيع الكثير منهم أن يعود إلى ألفتهم السابقة معه ، فالحاقد منهم يرمقه بنظرة حسدٍ ، والمحب يرمقه بنظرة إعجاب تستدعي حسرة ، وفي الحالتين يكفّ الجميع عن اعتباره واحداً من صحبتهم القديمة ، وهكذا الأمر فكلما زاد نجاح الشخص زاد بُعد وجفاء أصحابه معه ، فيخيل لكثير من الناجحين بعد وصولهم أعلى المراتب أن نجاحهم بات مكلفاً لهم ، حيث يفسد النجاح المودة مع كثير من الأصدقاء والأقارب.
ومن أقبح أنواع الحسد العصري ما يُعرف بالحسد المِهني ، وهو من الأمراض الخطيرة التي تلحق بالسلك الإبداعي ؛ لأنه يَقضي على كلّ تميز ، ويَمنع من النهوض بأيّ منجز معرفي ، ومع وُجوده تَتحول الأعمال لأمور شكلية ، ويَضعف الانتماء ، وتقلّ الرغبة فيه ، وتَكثُر الشكاوَى حوله.
وقد أَثبتت التجارب أنّ كلّ ناجحٍ مميزٍ يُحارب ، وصاحبَ الطُموح يُستهدف إلا أنّه من المؤكد أن الناجح لن يستسلم ، وسيواصل نشاطه بجد واجتهاد ، ولن يعبأ بمن يترصد به ، أو يخفي إنجازاته ، والحاسد - مهما فعلتَ - قد جُبل على إنكار كلّ نجاح ، ففي أي عملٍ كلما ازداد الناجحُ عطاءً وطموحاً كثر حساده ، وما دُمتَ في السلك الإبداعي فستجد مَن يزيدك تحطيماً وتهميشاً وانتقاداً.
فيا أيها الذين تألموا في ظلمة الأيام ، إنّ من أسرار تميزكم أن تكون فيكم القوى الداخلية التي تجعلكم مصرين على مواصلة طريقكم ، وتمنعكم من التنازل عن أهدافكم مهما يخذلكم الأقرباء أو الأصدقاء ، فابحثوا عن سبل دعمكم ، ولا تنتظروا أن تأتيكم ، ولا تطمعوا من غيركم أن يدفعكم للمعالي ، بل كونوا دافعين لأنفسكم نحوها بتمسككم ، فدافعيتكم ذاتية منكم وإليكم ، تشبثوا بالصبر في سيركم ، ولا تهنوا ولا تحزنوا فأنتم الأعلون بأعمالكم ، ولا عيب في التميز إلا أنّه تتوجه الأعين والألسنة الكثيرة لأربابه!
---------------------------
بقلم: د. علي زين العابدين الحسيني
* أديب وكاتب أزهري
من المشهد الأسبوعية