19 - 04 - 2024

في سينما (حرفوش) .. ابتساماتٌ ودموع !

في سينما (حرفوش) .. ابتساماتٌ ودموع !

دقتْ ساعةُ التنبيه تمام السابعة صباحا، فقمتُ من نومي أنفضُ الكسل، وقلبي يتراقص بين جوانجي، إذ اتفقتُ مع طارق ونجاح ليلة أمس أن نخرجَ اليوم في فسحة إلي مدينة بنها، بعدما قضينا أول أيام العيد في زيارة الأهل والأقارب .

بدأت فسحتُنا بالمشي علي الكورنيش تحت ظلال أشجار البونسيانا بزهرها الأحمر القاني، وأشجار الجميز التي رَسَمَ عليها الزمنُ آثار الشيخوخة، وفعلَ بها ما يفعلُه بعجوزٍ طاعن في السن، فترهلتْ جذوعها، وتآكل بعضُ لحائها، وتشعبتْ أغصانُها، التي وقفتْ عليها طيورٌ  مُختلفة الأشكال والألوان تصدح وتغني .

حول أشجار الكافور، التي وقفت شامخة تتحدي عمارات المدينة الشاهقة وأبنيتها الخرسانية الصماء، انطلقنا نلف وندور؛ لنري من منَّا يشعر بالدوار أولا؛ فيكون هو المنهزم، وساعتها يُطالب بشراء قراطيس (التِرمس) وحَبِّ العزيز، وأقماع الجيلاتي المُثلَج، التي تُرطب أحشاءنا، وتُخفف عنا حرَّ أغسطس بشمسه المتوهجة !

علي طَوَار الرياح التوفيقي، انطلقنا نتسابق وسط تصفيق المُتفرجين الحاد، ثم استأجرنا مع آخرين مركبا يحمُلنا علي صفحة الرياح التوفيقي من شاطئ إلي آخر؛ لنستمتع بسحر الماء، وحلقات الرقص والغناء، التي تُنسينا يوما أو بعض يوم (وِرد) سيدنا في الكُتَّاب و(الفَلكة) التي تنحشر فيها قدما المُعاقَب؛ لتهوي عليهما عصا سيدنا اللعينة، ولننسي فيما ننساه أيضا الحبرَ الأسود، الذي تتلطخ به أيدينا، وملابسنا أثناء كتابة الورد اليومي في الألواح بأقلامنا (البوص) .

عقب عودة المركب، أسرعنا نبتاع أطباق الكُشري، ونسكب فوقها زيت الفلفل الحريف لتضطرم أفواهنا، مما يُلجئنا إلي أحد محال المُثلحات لنطفئ تلك النيران المضطرمة بأكواب من عصير القصب المُثلَّج، وزجاجات المياه الغازية .

وعقب ذلك اللهو والمرح، ابتلعتنا قاعةُ عرض سينما (حرفوش) لمشاهدة أحدث أفلام الأكشن .

كنتُ آنذاك دون العاشرة، أما طارق، فكان شابا يافعا علي مشارف الخمس عشرة سنة، وخط شاربُ المراهقة فوق شفته العليا خطا عرضيا أسود، يُعلن أنه تجاوز مرحلة الطفولة، وبدأ يشق طريقه بخطواتٍ واسعة إلي عالم المُراهقة، حيث الجرأة والإثارة.  وكان نجاح يكبرني هو الآخر بعامين، ويفتح ذراعيه ليحتضن حياة الرومانسة والحُب .

كنتُ وحيدَ أسرتي، فتربيت علي قِيم العيب والحرام والأدب والذوق، وكان الموتُ أهون عليَّ من أن أُكلم فتاة، أو أنظر إليها خلسة؛ خشية الحبس في (حجرة الفئران)، أو الحرمان من الخروج واللعب مع الأصدقاء؛ لهذا أخفي عليَّ طارق ونجاح أن (المُغتصِبون) هو فيلم العرض، وهو أكثر الأفلام جرأة وإثارة آنذاك، وهو ما تحلب له لعابُهما، وجعلهما يُخفيان الخبر مُدعيين أنه فيلم أكشن، وإلا أحجمت عن الخروج معهما .

حشوتُ جيبي بما تبقي من (عيدية) الأمس، ولبست بيجامة العيد المُخطَطَة طوليا، والتي اشتراها لي أبي من شركة بيع المصنوعات، فأكسبتني طولا أخفي صِغرَ سني، وضآلة جسمي، وخرجتُ إلي الشارع أعدو، دون أن تلمس قدماي الأرض، فكنتُ كعصفور نسي صاحبُه باب قفصه مُفتوحا، فانطلق يضربٌ الهواء بجناحيه الصغيرين عازما علي ألا يعود للحبس، أو كـ(ريشة) في مَهبِّ الريح لا يستقرُ لها قرار !

في المكان المتفَق عليه التقينا، فناشدتهما أن يغذَّا في السير لنبدأ يومنا من أوله في اللهو واللعب، لتبتلعنا بعد ذلك قاعةُ العرض السينمائي لمشاهدة فيلم الموسم، ورؤية كيف ينتصرُ البطل علي خصمه، وكيف يُسددُ له اللكمات؛ لنتعلم حركاتٍ قتالية جديدة، تُمكننا من الانتصار علي خصومنا بحلبات المصارعة، التي تنعقدُ بين أبطال ناحيتنا، والنواحي المجاورة، ويُحمَل عقبها الفائز علي الأعناق بعدما يُمنَح لقب فتوة الناحية، والذي بمقتضاه يصيرُ الآمر الناهي بين الصبيان، تماما كما كان الحال مع عاشور الناجي فتوة الحرافيش.

وصلنا إلي كورنيش (الفلل)، الذي أطلتْ عليه عماراتٌ أنيقة، وبنايات فخمة ببلكونات واسعة، اتكأ أصحابُها علي (درابزين) أسوارها، ووقفوا - كما لو كانوا بصالة عرض سينمائي - يُشاهدون منظر الرياح والقوارب، ورواد الكورنيش وهم يلعبون ويمرحون .

كانت صفحةُ الماء بلونها الفضي، وفوقها المراكبُ الشراعية تسحر العيون، بينما تسللت نسمات الهواء الرطب تعبث بخصلات شعر الفتايات فزادتهن فتنة وجمالا، وكان لمنظر الأطفال بملابس العيد الزاهية، وبالونات الهواء مُختلفة الأشكال والأحجام، التي جعلت السماء مُزينة بزينةٍ الكواكب سحرٌ يخلبُ العقول .

انقضتْ سحابةُ يومنا، ونحن في غمرة اللهو، وحان موعدُ الحفل، فدخلنا قاعة العرض، حيث الصمت والسكون، الذي عزلنا عن العالم الخارجي بصخبه وضجيجه .

بمجرد جلوسنا بمقاعدنا المخصصة، انطفأت أضواء القاعة، فاعتراني فزعٌ، فكرتُ بسببه في الخروج من تلك القاعة، لكنه سرعان ما زال بعدما شاهدتُ شاشة العرض، التي انبعث منها ضوء يُصافحنا، ويأخذ بأيدينا إلي عالم النشوة والمرح .

بدأت أحداثُ الفيلم بخروج البطلة مع خطيبها للتنزه بمنطقة المقطم، فرآها مجموعةٌ من مُدمني المخدرات، غابت عقولُهم وراء ذلك الكيف( المهبب)، فقرروا الاعتداء عليها؛ ليمزجوا بين شهوتي المخدر والجنس، ويروا ظمأ شهوتهم الجامحة، ونفوسهم الآثمة، التي لم تقل عنها إثما نفسا صديقيَّ اللذين خدعاني بقولهما إنه فيلم (أكشن) .

كانت صرخاتُ البطلة، واستغاثاتها كلما خلا بها ذئب طعناتٍ دامية صوبت إلي قلبي، فهطلت بسببها دموعُ عيني، شفقة علي تلك المسكينة، التي نهشت جسدها كلاب ضارية، وحدثتني نفسي أكثرَ من مرة أن أتخطي المشاهدين؛ لأخلصها من قبضتهم المشئومة، ولكني سرعان ما أتذكر أنها شاشة صماء، فأجلس مُكتفيا بمصمصة الشفايف، وهز الرأس يمنة ويسرة متألما لألمها .

وفيما كنتُ غارقا في دموعي، تعجبتُ لمنظر المشاهدين بعيونهم البراقة، وأباهيمهم، التي تعضُ عليها أسنانهم نشوة وإثارة، فتمنيتُ في قرارة نفسي أن ينهض خطيبُها وسط هذا الصراخ والتوسلات المتعاقبة، بعدما يشرب من ماء النيل الراقد، فتسري فيه قوةٌ خارقة، تُمكنه من التصدي لهؤلاء الفجار، والثأر لشرفه المهراق، ولكن هيهات هيهات، إذ ظل الحال : صرخات البطلة، وضراوة المعتدين، وشبق المشاهدين إلي أن أضاءت القاعة، وانطفات شاشة العرض لتعلن انتهاء الفيلم ..

هنالك التفتْ إلي طارق ونجاح، فإذا بي أذرف دمعي مدرارا حزنا علي البطلة من ناحية، وأسفا - وهو الأهم - علي خداعهما لي، وزعمهما الكاذب أنه فيلم ( أكشن) .
----------------------
بقلم: ‏صبري الموجي

مقالات اخرى للكاتب

د. خالد الخطيب .. مسؤولٌ تُرفع له القُبعة !





اعلان