28 - 03 - 2024

سلامٌ على إيزيس التى تُلَملِمُ أشلاءنا

سلامٌ على إيزيس التى تُلَملِمُ أشلاءنا

(الزوجة سقف البيت، والأم سقف العالم)- إبراهيم عبد المجيد فى ثلاثية "الهروب من الذاكرة".

الإجرامُ درجاتٌ .. أحسب أن فى الدرك الأسفل منها ترويع أمٍ بأبنائها .. مثلما فعل والى الطاغية دقلديانوس مع جدتنا الشهيدة المصرية دولاجى .. شهيدة إسنا .. حيث قام بتعذيب فلذات أكبادها الأربعة الصغار أمامها لترتد عن مسيحيتها .. فلما أَبَت ، أمر بذبحهم واحداً تلو الآخر على ركبتها .. فلما صمدت بعد كل ذلك أمَر بذبحها .. طاف هذا المشهد بمخيلتى وأنا أتابع صورة الأستاذة الدكتورة ليلى سويف جالسةً ثم مُمَّدَدَةً على الرصيف المقابل للسجن فى انتظار أن يأتوها برسالةٍ بخط وحيدها تطمئنها عليه .. مجرد رسالة مع أن الرؤية حقها .. ويستمر المشهد من الصباح للمساء .. ويتكرر أياماً متتاليةً .. والأم لا تَكِّلُ .. ودقلديانوس لا يرحم.

تحكى الأسطورة المصرية عن إيزيس، التى اغتصب (سِت) عرشَ زوجها وحبيبها (أوزوريس) وقتله وبعثر أشلاءه بامتداد الوطن، لكن إيزيس لم تستسلم وظلت تجوب البلاد تلملم الأشلاء إلى أن انتصر الحق على (سِتْ).

والقارئ المتعمق لتاريخ مصر سيكتشف أن المعركة مستمرةٌ ولَم تنتهِ بين إيزيس وسِتْ .. من قبل دولاجى إلى أيامنا تلك.

فى كل بيتٍ مصرىٍ الآن إيزيس  .. تتبدى بطولتها كامرأةٍ خارقةٍ .. جديرةٍ بنوبل للاقتصاد والصبر ..  تعتصرها (الإنجازات) وتسحقها (إصلاحات) الصندوق وتمضى شهرها فى سباقٍ للموانع .. ما تكاد تصل إلى خط نهايته حتى تبدأ من جديد .. تستوى فى ذلك ربات البيوت .. والموظفات من أعلى السُلَّم الوظيفى إلى أدناه .. والفلاحات الشريفات القادمات فجرَ كل يومٍ من ضواحى المدن، حاملاتٍ ما أنتجنه من جبنٍ وبيضٍ لترجعن فى نهاية اليوم بجنيهاتٍ قليلةٍ تتعفف بها أُسَرُهُنَّ.

هذا عن المرأة العادية .. فما بالنا بأولئك المهمومات بالشأن العام، سواء اللاتى انخرطن (ولا زِلن) فى العمل الوطنى والسياسى المباشر، أو حتى أولئك المنشغلات بالعمل العام البعيد عن السياسة المباشرة كالحقوقيات والصحفيات وكل أنشطة المجتمع المدنى .. فى دولةٍ تمتلك كلَّ أدوات التلفيق والتشويه ضد معارضيها، وتعتبر التنفس بعيداً عن يدها الباطشة مؤامرةً كونيةً وفعلاً مُجَّرَمَاً .. إذ يبقى لتشويه المرأة فى هذا المجتمع الذكورى مذاقٌ خاص (بالغ المرارة) .. وكثيرٌ من هؤلاء الشريفات تستضئ بهنَّ الآن زنازين مصر فى سجونها المُعتمة (عفواً .. مراكز الإصلاح والتأهيل!).

لكن الأعوام الأخيرة أضافت لهؤلاء البطلات صنفاً آخر لم تعرفه أدبياتنا من قبل: نساء المعتقلين السياسيين من كل التيارات بلا استثناء، المشهورين منهم والمغمورين .. اللاتى يتجاهلن المجلس القومى للمرأة والمجلس القومى لحقوق الإنسان، وغيرهما من هذه المجالس القومية المُعَّلَبَة.

عملياً يتَوَّقَفُ نضالُ كل سجينٍ سياسىٍ عند قضبان زنزانته وينعزل تماماً عن الدنيا التى كان أحد مشاعلها ومشاغلها .. لكن الراية تستلمها فى نفس اللحظة زوجةٌ أو أمٌ أو ابنة (أو كلهن معاً) .. تحارب فى صمتٍ فى عدة جبهاتٍ فى آنٍ واحدٍ.. ففضلاً عن كونها تُلاطِم الحياةَ التى يُلاطمها غيرها، ولكن فى غيبة السَنَد .. وأحياناً فى غيبة الراتب .. وفى وجه دولةٍ تعاديها وأسرتها .. فإنها تشتبك على جبهةٍ جديدةٍ تماماً على معظمهن .. ما كُنَّ يعرفن مفرداتها من قبل فأصبحت جزءاً من لغتهن اليومية .. جلسة التجديد .. الطعن .. الزيارة .. التحفظ .. المصادرة .. إلى آخر هذه الكلمات التى تُشَّكِلُ كلٌ منها معركةً فرعيةً تنوء بحملها الجبال .. وتخوضها إيزيس وحيدةً صابرةً محتسبة .. وتخرج منها مثخنةً بالعديد من الجراح الغائرة والعَذابات المرئية والمستترة .. خذ عندك (الزيارة) مثلاً .. وهى كلمةٌ بسيطةٌ نُطقاً وكتابةً وتوحى بالبهجة والفُسحة .. وتحاول المرأة (الأم/الزوجة/الابنة) أن تجعلها كذلك بالفعل .. لكن الطاغيةَ القابع فى كل تفصيلةٍ فى مسلسل الزيارة يُحَّولها إلى معركةٍ بالفعل .. تبدأ قبلها بأيامٍ للتنسيق مع أخرياتٍ لترتيب مواصلةٍ جماعيةٍ أقل تكلفةً للقادمات من الأقاليم .. وإعداد وجبةٍ كان يُفَّضِلُها الحبيب المحبوس .. وتجهيز الأطفال للزيارة .. ثم التحرك بهم قبل الفجر لحجز دور  .. والانتظار لساعاتٍ فيما يسمى الأنبوبة دون دورة مياه أو مظلةٍ واقية فى برد الشتاء وقيظ الصيف .. وهى تُتَمتم بالدعاء ألا يمنع لها المفتش وجبةً أو دواءً أو قطعة ملابس بديلاً عن التى لم يستبدلها منذ عام .. إلى أن تصل إلى مرحلة (التفعيص) فى الوجبة .. حيث المنع أو السماح دون سبب وفقاً لمزاج قراقوش .. وفى كل مرحلةٍ من هذه المراحل طاغيةٌ صغيرٌ يستطيع أن ينسف كل ما سبق ليعيدها سيرتها الأولى .. وفى كل خطوةٍ أيادٍ تمتد بلا حياء لاستنزاف ما فى جيبها من جنيهاتٍ، يعلم الله كيف وفرتها .. وعليها بعد كل ذلك أن ترسم على وجهها ابتسامةً مصطنعةً ترفع بها معنويات حبيبها أثناء الزيارة الخاطفة لدقائق قد تكون من خلف ساترٍ زجاجىٍ .. نتحدث هنا عن مصرياتٍ فُضلياتٍ وعائلاتٍ كريمةٍ لسجناء سياسيين محترمين ذوى رأىٍ مختلفٍ .. لا عن إرهابيين وقَتَلة (مع أن للقتلة واللصوص حقوقاً يجب أن تُصان).

من المفارقات أن المعاناةَ على أبواب السجون وَحَّدَتْ بين الزائرات وتكونت بينهن صداقاتٌ خاليةٌ من الاختلافات الفكرية والسياسية القائمة بين بعض ذويهن خلف القضبان (إنَّ المصائبَ يجمعن المُصابينا) .. وذات يومٍ بعد أن تنقشع السحابة السوداء، لا بد من تخليد كفاح أولئك الطيبات الصابرات اللاتى لم يخذلن مصر وارتفعت هاماتنا بهن ولازِلن يلملمن أشلاءنا.

تذكير

أَلْفِتُ نظرَ الأصدقاء الذين صَدَّقوا الفبركات المنتشرة عن قضية علاء عبد الفتاح (وأولئك الذين يريدون أن يُصَّدِقوا حتى يبرروا لأنفسهم التقاعس عن الدفاع عن المظلومين) إلى معلومةٍ قد تكون خافيةً عليهم، وهى أننى أنا (المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى) معه فى نفس قضيته ومُتَّهَمٌ رسمياً بنفس الاتهامات .. فإذا صَدَّقتموها عليه صَدِّقوها علىَّ.
إذ أنه بمجرد إتمامى عامين فى الحبس الاحتياطى فى بداية فبراير ٢٠٢١، تم تدويرى من محبسى فى سجن طرة على القضية رقم  ٢٠١٩/١٣٥٦ المتهم فيها علاء عبد الفتاح ومحاميه محمد الباقر وآخرون بالتُهَم النمطية إياها، ولَم أكن قد التقيت محمد الباقر فى حياتى كما أننى لم أكن قد التقيت علاء إلا فى عزاء والده .. وفى أكتوبر ٢٠٢١ تم نسخ جنحة نشر أخبار كاذبة من القضية ١٣٥٦ لكلٍ من علاء والباقر ومحمد أكسيجين وصدر الحكم عليهم (دون اطّلاعٍ أو مرافعة) بخمس سنوات لعلاء وأربع سنوات لكلٍ من الباقر وأكسيجين .. بينما تم نسخ جنحة مماثلة لى من قضيتى الثالثة المتهم فيها وحدى وصدر الحكم علىَّ بأربع سنواتٍ صدر العفو عنها لاحقاً .. وحتى إذا أُفرِج عن علاء وباقر وأكسيجين (يا رب) فإن القضية الأصلية رقم ١٣٥٦ التى تضمنا معاً لا زالت وستظل قائمةً ولَم تسقط .. ما لم يتم حِفظها دون الاكتفاء بإخلاء السبيل .. مِن حظنا أننا معروفون، لكن ذلك لم يمنع توجيه هذه الاتهامات (الرسمية) لنا ..لكن هناك الآلاف من الذين لا يعرفهم إلا ذووهم حُبِسوا أو أُدينوا بأحكامٍ وصلت للمؤبد بواسطة نيابات ومحاكم أمن الدولة .. المصيبة عامَّةٌ والخَطبُ جَلَل.

خاتمةٌ خارج موضوع المقال:

للأصدقاء الذين لاحقونى بالسؤال عن سبب توقفى عن الكتابة عقب نشر مقالى الأخير، أقول إننى كنتُ قد عقدتُ العزم قبله على التوقف قليلاً، إذ لم يعد هناك جديدٌ على الساحة يستنطق القلم، والأحداث مكررةٌ ورتيبةٌ .. كما أَنَّ جدولى مزدحمٌ بقراءاتٍ مُؤَجَلَةٍ لبعض روايات الأصدقاء بهاء طاهر (رحمه الله) وإبراهيم عبد المجيد ومحمد المخزنجي وإبراهيم عيسى وبلال فضل وعلاء الأسواني وأسامة غريب، فضلاً عن كُتُبٍ فى الاقتصاد والتاريخ والإدارة، وكل ذلك يحتاج وقتاً فسيحاً أنا فى حاجةٍ إليه .. لكن سبباً إضافياً وجيهاً استجد بعد ذلك جعل التوقف حتمياً .. إذ رجانى أصدقاء لا أشُك فى صدقهم ووطنيتهم فى أمانة الحوار ولجنة العفو (عليهما رحمة الله) أن أساعدهم بالصمت حتى ينتهوا من ملف المعتقلين .. ورغم أننى لم أفهم (ولا زلت) العلاقة بين الأمرين، إلا أننى أجبتهم بأنه إذا كان صمتى سبيلاً لإنهاء مأساة آلاف المظلومين وعائلاتهم سأصمت، فالصمت فى هذه الحالة فضيلة .. أَمَا وقد مَرَّ على هذا الرجاء والوعد حوالى ثلاثة أسابيع ولَم يُفرَج عن معتقلٍ واحدٍ (بل أُضيفَ إلى السجون نزلاء جُدُد) فأنا فى حِلٍ من وعدى .. لا سيما وأننى لا أكتب مقالاتٍ، وإنما هى زفراتٌ أتنفسها .. وَإِنْ كتمتُ أنفاسى أكثر من ذلك أموت .. اللهم إنى أستودعك وطنى وأسرتى فالطف بهما .. وبى.
-------------------------------------
بقلم: مهندس / يحيى حسين عبد الهادى

مقالات اخرى للكاتب

بل يجب الإفراج عن الجميع بمن فيهم الإخوان





اعلان