19 - 04 - 2024

(سيجارة) عمِّي رمضان !

(سيجارة) عمِّي رمضان !

كانتْ قسوةُ أبي - رحمه الله - عليَّ أيام الطفولة والصبا عندما أُخطئ في فعل، أو أتجاوز في حديث هي سببَ استقامتي فيما بعد، وحقا :

قسا ليزدجروا ومن يك حازما يقسو أحيانا علي من يرحم .

كنتُ في صغري - شأن أقراني - كقطعة صلصال لينة، يستطيعُ النحاتُ تشكيلَها قبل أن تيبس وتجف، فإن جفتْ صار من الصعب تطويعُها، وأعيت صاحبَها حيلُ تشكيلها .

أمسك أبي عصا تقويمي من المُنتصف، فكانت حالُه معي .. قسوة في غير قهر، وتدليلا في غير إفراط، فظللتُ مُستمسكا بمعاني الذوق والأدب والأخلاق طوعا أو كرها .

كانت أفراحُ العُرس، والليالي المِلاح أنشودتنا في الصغر، فما إن ننطلق من بيوتنا كعصافير خرجتْ من أعشاشها، تُحلق في الفضاء الواسع، حتي نندس في حِلق الحريم، حيث تجلس إحداهن تُغني، وحولها بقيةُ النساء يُصفقن ويُرددن أغاني تتكرر في كل حفل كـ(نقوط) للعروس مثل قولها : (ادحرج واجري يارمان، وتعالي علي حجري يا رمان)، ومثل : (يا اللي ع الترعة حود ع المالح)، ومثل : (عند بيت أم فاروق.. أي أي .. الشجرة طرحت برقوق.. أي أي)، وغيرها من أغانٍ شعبية يرددها كورال السيدات وأطفال ( الحِتة ).

أمَّا الحالُ مع العريس فكان الوضعُ مُختلفا، فيفرش أهلُه أمام البيت أو في (دوار) الناحية حصيرا مصنوعا من السمار، يجلس عليه المدعوون، يستمتعون بالمزمار البلدي، ويُدخنون الشيشة، أو ينفثون دخان السجائر، بينما يجلس (حَلاق) الناحية علي كرسي من الخيزران أمام باب الدوار لاستقبال المدعوين، والترحيب بهم بعبارة (وشوبش علي حياة العريس)، إذ دأب هذا الحلاق ينتفض كمن مسَّه تيارٌ كهربي، أو لدغته عقرب كلما وفد وافد، ويقول بأعلي صوته بعدما ينفحه ذلك الوافد (قرش تعريفة) : ( وعمي فُلان - ذاكرا اسمه عُقبال عنده)، وكلما كان عطاء المدعو سخيا، كان ترديد الحلاق لاسمه بصوت فيه تنغيم أوضحَ وأشد !

في هذه الأفراح،كانت (تحيةُ) الضيوف كوبا من (شربات الورد) وسيجارة، يلتقطها المدعو من علبة سجائر يمر بها صاحبُ الفرح علي (المعازيم) .

في أحد الأفراح، وبدلا من أن أتجه لحِلق السيدات، حيث الطبل والغناء للرمان والمالح وبيت أم فاروق، توجهتُ لبيت العريس، وجلستُ علي الحصير، أترقبُ احتفاء صاحب الفرح بي، بـ(كوب الشربات) والسيجارة، وكانت الصدمة، إذ اكتفي لتحيتي بكوب الشربات فقط، وحرمني السيجارة لصغر سني، فظل شُغلي الشاغل  هو كيف أحصلُ علي تلك السيجارة؛ لأفوز بواجب الضيافة كاملا شأني شأن الكبار !

ظللتُ سادر الفكر، أبحثُ في رأسي عن وسيلة أستلُ بها سيجارة من علبة سجائر  صاحب الفرح، ولكن هيهات هيهات، إذ أحكم الرجلُ عليها قبضته، بل جعلها في شِغاف قلبه !

بعقيدة الإصرار علي الهدف - التي كنتُ أتحلي بها صغيرا، وفارقتني كبيرا لكثرة أعباء الحياة ومُنغصاتها - قلتُ لابد أن أبحث عن حيلة أخري؛ لأفوز بتلك السيجارة اللعينة !

فعزمتُ أن أُغافل أحد من فازوا بهذا العطاء الثمين، وحُرِمتُه لصغر سني .

كان الحلُ عند عمي (رمضان) الذي نسي سيجارته بجواره، وانهمك في سحب الأنفاس من (الجوزة)، وكانت عبارة عن برطمان من الزجاج، عليه غطاء به فتحتان : إحداهما في المنتصف لتخرج منها ماسورةٌ من الخشب، يُثبت عليها حَجَر (المِعسل) وفوقه قطعٌ الفحم المتوهجة، والفتحة الثانية جانبية، يخرج منها عود من الغاب المجوف، يشفطُ من خلاله المُدخِن الهواء، فييتجه الدخانُ من الحجر إلي البرطمان، ثم يصعد مرورا بقطعة الغاب ويخرج من فم المدخن وأنفه، فتعتريه حالة نشوة و(سطل)، يقول بعدها : (مسا الخير)، إيذانا بانتقال ماسورة الغاب إلي فم مُدخنٍ آخر .

وصل عمي (رمضان) لحالة من الهذيان، نسي بسببها السيجارة بجواره، فتسللتْ إليها يدي، وألقيتها في (عبي)، لأهرب بها إلي البيت، وأخلو بها خلوة غير شرعية،  وساعتها سيكون لي معها شأنٌ آخر !

انتهزتُ فرصة خلو الدار، التي كانت قاعا صفصفا بعد غياب والديَّ في الحقل، واستغراق أختي الكبري (فايزة) في النوم، فهرولتُ إلي المطبخ، وأحضرتُ كبريتا، أشعلتُ به السيجارة، والتقمتها بفمي، وما إن أخذتُ نفسا واحدا، حتي تملكني سعالٌ كاد يفلق قلبي، فاستيقظتْ أختي علي صوت سعالي، الذي احمر له وجهي، واغرورقت عيناي، فقامت علي عجل وجاءتني بكوب من الماء لأطفئ نارَ ذلك النفس اللعين.

هدأ السعالُ، واطمأنت أختي أنني مازلتُ علي قيد الحياة، ولم أشعر بعدها إلا وأصابع كفها تهوي علي وجهي، وتصرخ بأعلي صوت : لابد أن يكون لأبيك معك موقفٌ .. أنت ولد (تَلفان) 

لم يُكذب أبي خبرا، إذ عاد من الحقل وكان لعصاه معي حديثٌ آخر بعدما قصَّت أختي عليه الخبر !
-----------------------------
بقلم: صبري الموجي 

مقالات اخرى للكاتب

د. خالد الخطيب .. مسؤولٌ تُرفع له القُبعة !





اعلان