كنت فيمن يزوره الحين بعد الحين، وفي كلّ زورة يكشف لي عن أسرار مهنة الكتب، وأخبار أربابها، واتصاله بالعلماء والأدباء والمثقفين، ألقاه في مكتبته الحافلة خلف الجامع الأزهر الشريف، يقدم لي فنجان القهوة بحفاوة وترحاب شديدين، لا أدري ما سرّ سعادتي حين ألقاه، هل هي الراحة النفسية التي أشعر بها أثناء الحديث معه، أم عبقريته في تلبية ما يجول في خاطري من تساؤلات حول الكتب ومؤلفيها، أم معرفته التامة بأرباب الثقافة، تعدّ زورته فرصة عظيمة لطالب جامعيفي بداية مشواره العلمي للاتصال بالعلماء عن طريقه، ولأسبابٍ كثيرة توثقت بيننا العلاقة، وزادت بيننا المحبة، وتأكدت بيني وبينه أسباب المودة، فعرفته في حالات مختلفة، وخبرته في مواقف متعددة، لم أره يوماً منع عني كتاباً، أو حبس عني معلومة، كان في حديثه دائماً ما يخاطبني بـــــ"الدكتور"، رغم أني في عداد طلبة "الجامعة الأزهرية" آنذاك، ولم يكن في خطتي أن أكمل دراستي، هل لفراسته ونباهته رأى أني سأكون في يوم من الأيام من حملة "الدكتوراة".
كانت تمرّ بنا أوقات تنقطع بيني وبينه أسباب التزاور، فإذا ما تجدد اللقاء لم تجده إلا على الوجه الذي عرفته به، ذو معدن كريم، وقديماً يعرف الأصيل بثبات أخلاقه في جميع الحالات، وبقاء أفعاله على حسنها، ثم انقطعتُ عنه ردحاً لألقاه بعد سنين، وقد حول الدهر حاله من حال إلى حال، فرسم على خدوده ثنيات، وخط على جبينه خطوطاً، رأيته من بعد، فجرى في ذهني أن رأسه سكنه مشاغل لم تكن من قبل، لكن بقي على حاله في إكرام ضيوفه والفرح بالطلاب، والاستبشار بقدوم الأساتذة، فزادت محبتي له.
عرفتُ الحاج الكتبي"محمد محمد إمبابي" الشهير بالحاج "حمدي" شيخ الكتبيين وكبيرهم المقدم في مكتبته العامرة "المكتبة الأزهرية للتراث"، تكلم كثيراً عن جهود والده في سبيل نشر الكتب،قدم والده الحاج "محمد أفندي إمبابي" من صعيد مصر إلى القاهرة ليلتحق بالأزهر الشريف، فحضر على بعض علمائه مدة من الزمن، إلّا أنه سرعان ما غير وجهته، فاشتغل بمهنة تجارة الكتب لعلماء الأزهر وطلابه، وتفرغ لذلك، وأسس "المكتبة المحمدية" سنة 1913 في شارع "الصنادقية" بالأزهر الشريف، وطبع عشرات الكتب الشرعية واللغوية والأدبية، وتعرّف على علماء القاهرة وأدبائها وشعرائها، ثم تطورت المكتبة في عهد ولده الحاج "محمد إمبابي"، فأسس شركة جديدة باسمه مشاركة مع أخيه؛ ليتغير بسببها اسم المكتبة إلى اسم "مكتبة الكليات الأزهرية"، ثم استقر الحاج "حمدي" في مكتبة خاصة به، وهي "المكتبة الأزهرية للتراث" الموجودة الآن خلف الأزهر الشريف، وهكذا تسلسلت هذه السلسلة المباركة، ابتداءً من "المكتبة المحمودية" مروراً بمكتبة "الكليات الأزهرية" ثم "المكتبة الأزهرية للتراث"، وولد من رحم "المكتبة الأزهرية للتراث" بعض المكتبات الحافلة اليوم.
لقد تواصلتُ مع كثير من العلماء عن طريق هذا الرجل،يكفي أن أخبرك أنّه كان وسيلتي في لقاء شيخنا العلامة الفقيه عبد الرحمن عبد النبي العدوي -عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف-، فهو الذي حدد لي موعداً للاجتماع به، وبزيارة أستاذنا العدوي ازددتُ معرفة بأحوال الدراسة في "الجامع الأحمدي"، ولأستاذنا سيرة ذاتية بعنوان "حياة عالم وتاريخ أمة" أهداني إياها، وهي وثيقة تاريخية مهمة لحال الدارسين بالأزهر قديماً، وعن طريق المباحثات معه في بعض المسائل خصوصاً في علم الفرائض انتفعت كثيراً، وقرّظ لي مشكوراً كتابي "متممة التحفة السنية في أحوال الورثة الأربعينية" المطبوع بدولة الكويت.
إنَّ الحاج "محمد إمبابي" من الشخصيات الفـريدة التي لا تتكرَّر، ومن الأمثلة المشاهدة التي اتخــذت لنفسها منهاجًا خاصًّا تسير عليه في حياتها دون أن تلتفت إلى الصِّعاب التي تواجهها، وقــد أسَّس مدرسة كـتبية أرجو أن تستمر ويؤرَّخ لها ويترجم لأربابها، ولئن كنَّـا مدينين للعلماء والأدباء الذين أثـروا حياتنا العلمية والأدبية بكثيرٍ من الـمؤلفات والتحقيقات والجهود فنحن مدينون للحاج "محمد إمبابي" ومدرستـه بحفاظهم على تراث الأمة النفيس، والتعرُّف على جهود العلماء في جانب التأليف من خلالهم.
تخرّج على يد هذا الرجل كثيرون من ناشري الكتب، وصار لهم اسم في عالم الكتاب، فيما بعد تأسست "دار الإمام الرازي للنشر والتوزيع" للناشر المجد صديقنا أحمد حسن التلاوي، وهو واحد من خريج مدرسة "الحاج محمد إمبابي" الكتبية،لا زلت أذكر صاحبنا وهو يعمل في"المكتبة الأزهرية للتراث"مع الحاج محمد إمبابي، ولا زلت أتذكر أنه هو الذي حمل لي كتاب "شرح الألفية" للسيد أحمد زيني دحلان بعد إخبار الحاج محمد له عن مكانها، وهي نسخة نفيسة، وكانت في هذا الوقت شحيحة تكاد تكون معدومة.
عمل التلاوي في المكتبة من سنة 1997م حتى عام 2011م، فتعلم على يديه من الناحية العملية ومعرفة خبايا وأسرار الكتب الشيء الكثير، ويعده الأب الروحيّ والعملي والمعلم الأول له في الأعمال الكتبية، وآخر عمل معه كان حضور معرض الجزائر الدولي، وكان قد كتب عقد مكتبته الجديدة "دار الإمام الرازي" ودفع إيجار شهرين، إلّا أنه لم يبدأ بعد في عمله الجديد؛ نظراً لارتباطه بأعمال مع الحاج "حمدي"، وما زالت علاقة التلميذ مع أستاذه مستمرة، وما زال الأستاذ يرسل لتلميذه الزبائن، ويكتب على ظهر الكارت الخاص به: "الابن الفاضل أحمد التلاوي رجاء الاهتمام بحامله والبحث عن الكتاب".
حينما علمتُ باستقلال صاحبنا "التلاوي" في العمل، ورغبته في إنشاء مكتبة ودار نشر خاصة به، عرفت وقتها أنّ مكتبته سيكون لها اسم ورواج في مصر والعالم العربي في فترة وجيزة؛ لإيماني أنّ مَن تربى على العظماءسيكون واحداً منهم حتماً، ولأني أؤمن برسالة "الحاج محمد إمبابي" في عالم النشر، فقد أيقنت بنجاح "دار الرازي"، وهو الأمر الذي حصل، فباتت "دار الإمام الرازي"من كبرى دور النشر بالقاهرة، وطبعت كثيراً من المنشورات الجادة والتحقيقات النفيسة لكبار علماء ومحققي الأزهر الشريف.
---------------------
بقلم: د. علي زين العابدين الحسيني
أديب وكاتب أزهري
من المشهد الأسبوعية