06 - 06 - 2025

ترنيمة عشق | صُنّاع الوهم

ترنيمة عشق | صُنّاع الوهم

عام 1715 اتفق"عالِم هولندي" مع أحد المحكوم عليهم بالإعدام أن يتم إعدامه بـ "تصفية دمه" لدراسة التّغيرات التي ستطرأ على جسده حال موته؛ وافق المسجون مقابل مبلغ نقدي وفير يتركه لأسرته وكتابة اسمه في سجلات البحث العلمي كنوع من تخليد ذكراه.

غطى الطّبيب عيني الرّجل وربط خرطومين على جسده بدءًا من قلبه حتى مرفقيه يسري فيهما ماء دفيء يقطر في إناء وُضع أسفل قدميه بطريقة جعلت صوت تساقط القطرات تطرق مسامعه وقد هًيئ له أنها من دَمِه... بعد بضع دقائق لاحظ الطّبيب شحوبًا واصفرارًا يعتريان جسد المجرم، وعندما أزاحوا الغطاء عن وجهه وجدوه ميتًا !!!

تاريخ البشرية التّعيسة مليء بالموت بسبب "الوهم"؛ فتلك صناعة من أهم وأربح الصّناعات، بمعنى أدق هي صناعة "اللاشيء"... تروق للكثيرين لا سيما في المجال الثّقافي؛ وذلك بإعادة تشكيل الذّائقة الّثقافية لدى الشّعوب تجعل المتسلقين وأنصاف المواهب تحوطهم هالة إعلامية فيصبحون "ترند"، وكذلك المجال الإعلامي والسّياسي والدّيني وحتى ميدان الغذاء والدّواء وأوهام السّمنة والنّحافة وعمليات التّجميل والأزياء... حيث امتلاك القدرة على الكذب بأعلى مستوياته، والمذهل أن المكذوب عليه يكون على أتم الاستعداد ليتقبل الكذب "الوهم"؛ بل ويستمتع به وقد يدفع مقابلًا له !!!

"صنّاع الوهم" موهوبون؛ متقنون؛ يمتلكون أدوات عصرية متطورة ولغة واضحة قد تكون جزلة أو حتى شاعرية رومانسية؛ وقدرة على البحث الدّؤوب عن مرتع خصب من الحيل النّفسية ومهارات عدة للكذب... المهم امتلاكهم قدرا هائلا من الجرأة تشبه منطوق وثقة أصحاب الحق والحقيقة !!!

قد يُدهش البعض من إدراج بعض "رجال الدّين" ضمن جوقة "صنّاع الوهم"؛ بَيْد أن الأمر ليس بغريب حين نرى الذين يسعون للتحرر من القيود؛ أو يخففون من بعض الأحكام الشّرعية أو يحرفونها أو يبدلونها أو يوهمون العامّة بتفاسير جديدة للنصوص الدّينية تخالف الحقيقة؛ حتى يغدون كالدّجالين فيكتفون بالمعاني الجمالية للنص الدّيني أو بلاغة النّظم... هَمهم: إقامة الحروف لا الحدود.

إبان الحرب الباردة بين المعسكرين الشّرقي والغربي في منتصف سبعينيات القرن الماضي ظهرت علوم استراتيجية ونظريات؛ أشهرها نظرية "الرّدع" تلك التي وضع لبنتها "هنري كيسنجر" -وزير الخارجية الأمريكية الأسبق- تمثلت رؤيته في تحقيق: "كل ما نريد بقوة السّلاح دون استخدامه" !!!

أما "المتلاعبون بالعقول" ذلك الكتاب الذي أصدره "هربرت شيلر"؛ فقد أوضح فيه كيفية التّأثير على عقول الشّعوب بسلاح: الإعلام والدّعاية والإعلان والسّينما، وكيفية تحويل المجتمعات لدُمى متحركة طبقًا لرؤية الذي يتلاعب بها.

في مُناخ "صناعة الوهم" يزدهر الدّجل والشّعوذة وقُراء الطّالع و"النّازل" والمنجمون وتنتشر أفلام سينما اللامعقول؛وتزدحم الشبكة العنكبوتية بدورات "التّنمية البشرية" تلك التي أوهمت البعض: أنك بدلًا من أن تقذف طفلك عاليّا في الهواء ثم تلتقطه على سبيل المداعبة معه؛ أوهمتْ تلك الدّورات البعض بقدرته على فعل المستحيل حتى هُيئ للطفل أنه سيقذف والده عاليًا في الهواء ثم يعود ليلتقطه !!. وستجدون رسمًا شهيرًا يفسر كلامي يمكنكم البحث عنه من خلال محرك البحث "جوجل" وغيره.

مع "صناعة الوهم" يكثر "الإلحاد" للتحرر من القيود - كما ذكرتُ آنفا- فيتوهم كل منا حقيقة الكون ونشأته وخالقه؛ كما ينتشر الفساد بين الشّباب؛ وتتفكك الأسَر؛ وتنهار القيم والعادات والتّقاليد ويسهل استلاب النّاس ووقوعهم في فخ ازدراء هويتهم وحضارتهم ولغتهم والانبهار وتقليد الآخرين.

"فرانك ديكوتر" مؤرخ هولندي في مجال العلوم الإنسانية يرى أن "صناعة الوهم" مربط الفرَس فيه هو: التأييد الشّعبي... فتأييد الفكرة يقضي على المعارضين والرّافضين ويفرق المنافسين، والأداة المبهرة هنا هو: تذليل المعلومات ووسائل الإعلام للدعوة للفكرة/ للشخص باعتباره الأكفأ والأوحد.

ويضيف المؤرخ الهولندي: أن سيطرة "هتلر" على "ألمانيا" لم تكن كافية؛ فأعادت آلة الدّعاية الإعلامية الجهنمية لديه طبع كتاب قديم بعنوان: "هتلر الذي لا يعرفه أحد"؛ أبانته رَجلًا اسبارطيًّا منضبطًا شجاعًا بسيطًا متقنًا مخلصًا للوطن، وأشاعوا وسط الألمان أن زعيمهم لديه مكتبة قوامها ستة آلاف كتاب قد قرأها جميعها !!!

"صناعة الوهم" وتحديدًا "التأييد الشّعبي الجارف والمطلق"... المُعلم الأول له هو "ستالين"... وكما يشير " فرانك ديكوتر" فإن أعظم ثمانية من طغاة القرن العشرين ومن أبرز صنّاع الوهم كانوا على التّرتيب: موسوليني- هتلر- ستالين- ماوتسي تونج- كيم إيل- فرانسوا دوفيليه- نيكولاي تشاوشيسكو- منجيستو.

"الوهم" المتقَن يستلب عقول التّابعين ويُفضي لعبادة صانعه... وعبادة الفرد مدمرة للنفوس؛ فساعتها تتحول الشّعوب جميعها لـ "كذبة" فلا يدري أحد من هو الكاذب !!! وبالتّالي لا يدركون مَن الصّادق وأين الصّدق تحديدًا، ويمضي الأمر حتى تتفاجأ بالجماهير التي تتسم بـ "الأنوثة العاطفية" تتوسل للطاغي أن يبقى بمنصبه لأنهم يصدقونه مهما دفعوا من أثمان !!!

"الوهم" يورث الخوف... فخادمة "ستالين" -المُعلم الأول لـصناعة الوهم والتّأييد الشّعبي المطلق- دخلت عليه غرفة نومه فوجدته غارقًا في بوله فلم تستطع إبلاغ أحد لإنقاذه خوفًا من أن تتصرف بـ "عقلها وإرادتها وحدها" - يعني خارج الكتالوج الموضوع لها - وللوهم الذي عاشته من أن "ستالين" فائق القدرة على فعل أي شيء وكل شيء؛ فكيف إذن لا يستطيع النّهوض ؟!!! وهكذا مات غارقًا في بوله ووهمه!!!

بالتّعليم والوعي تنفض الشّعوب "الوهم" عن كاهلها؛ وإلا لما نهضتِ "اليابان" بعد أن تعرضت لأكبر كارثة نووية حلت بالبشرية، ولما قامت "أوروبا" بنهضتها الاقتصادية والعلمية والفكرية بعد عقود من الاقتتال فيما بينها حصدت خلالها عشرات الملايين من ضحايا "الوهم" تحت شعار: الحروب المقدسة والجنس الآري والسّامي والدّم الأزرق النّقي.
-----------------------------------
بقلم: حورية عبيدة

مقالات اخرى للكاتب

ترنيمة عشق | إعلام زليخة