29 - 03 - 2024

عامل ومُعلم ومُحرر

عامل ومُعلم ومُحرر

الفصل الأول
يفكر مليًا في مغادرة البلاد هذا الشابُّ الذي لم ينل سوى تعليم فني أو تجاري أو زراعي، أو ربما لم تساعده الظروف في إتمام هذا المستوى الذي يسمى متوسطًا.. حتى إنه عندما لم يكن يملك تكاليف سفره أو مقابل عقد عمل يحصل بمقتضاه على تأشيرة العبور، لم يتوان في بيع شيء لديه، أو البحث جديا عمن يقرضه ولو ظل أمدًا يسدد ما اقترضه من عائد عمله، بعد بلوغ مراده وتحقيق ما ظنه حلما لطالما راوده منذ الصغر..
تساؤل:
كيف يتحمل شابٌّ يطمح لبناء مستقبله نحو 30 ألف جنيه مصري حدًا أدنى ربما يتجاوز الخمسين ألفًا- حسب وجهته المبحوث عنها- ولو عن طريق الاستدانة، فضلا عن نوعية عمله خارج بلده في سبيل ما يعينه على اقتياته وذويه أو تدبير نفقات زواجه أو توفير حياة كريمة لأسرته؟..
ربما مَن لم يجد طريقا إلا هذه يرى أنه لا حل في سواها، هو واثق في أن بقاءه لن يضيف إليه جديدا، كما يؤمن بأن في سفره وعمله خارج الديار حلا سيحوله للأفضل ولو بقدر ملحوظ، رغم يقينه بتحمله تبعات رحلته التي بلا شك تسرق سنين عدة من عمره بعيدا عن مسقط رأسه وعشيرته، قد يهون عليه أنه وضع أُنموذَجا لتقليده..

الفصل الثاني

ارتدى قميصًا أبيض وبنطالاً أسود وحمل نفسه على استعمال رابطة عنق حمراء اللون، فهو المُعلم الذي لم يعتد ارتداء الـ«الكرفتة»، إذ إنها قد تعيقه وهو يشرح بكلتا يديه لتلامذته الذين يتخرجون فيما بعد، ومنهم الطبيب والقاضي والمهندس، وذو التعليم المتوسط، وغيرهم.. سار المُعلم متفاخرًا حاملا شهادته وأوراقه الثبوتية ليحضر «إنترفيو» دعاه إليه أحد مكاتب السفريات الذي كان قد ترك طلبًا لديه لو توافرت فرصة.. يدخل المكتب ليفاجأ بأن طابورا من المعلمين على هيئته نفسها وإن اختلف لون «الزي» المُرتدى، قد سبقوه للحضور، أدرك حينها شُح نصيبه في تلكم الفرصة المتوافرة، فهناك من هم أكبر منه سنا وخبرة فضلا عن كونهم تمتموا باستعدادهم للتدريس خارج البلاد ولو مقابل راتب زهيد غير ذلك الذي أخبره المكتب به..
إحباط
ونظرًا لكثرة المتقدمين للعمل، دخل الحضورُ أربعةً أربعةً إلى صاحب المدرسة التي يقع مقرها في إحدى البلدان المجاورة والذي أجرى المقابلات بنفسه، وهو على يقين بأنه تتلمذ ونشأ وتربى على أيدي معلمين مصريين عظماء، يَسندُ إليهم، ربما كل جيله لا من بلده وفقط، بل من دول مجاورة، الفضل فيما أصبحوا عليه ووصلوا إليه من ترّقٍ.. وبعد ساعات طوال أرهقت قدميه حان دوره ضمن أربعته..
ويبدو أن صاحب «المخل» كان يعلم شيئًا من فصاحة اللغة العربية، إذ طلب من كل متقدم لشغل الوظيفة تعريف نفسه ودرجته العلمية وخبرته في دقيقتين، مستخدمًا «الفصحى»، فرح قليلا صاحب «الكرافتة» الحمراء ظنا منه أن الخبرة لن تكون المعيار الأوحد لشغل الوظيفة، وعندما حانت دقيقتاه قدم سيرته في الوقت المحدد له، مختتما بأنه من عشاق التدريس، قبل أن يتلقى ردًا: من أين أتى عشقه ذلك، وهو ذو سن صغيرة، ولا وجه مقارنة مع مرافقيه، فأصيب بنوع من الإحباط، لكنه سرعان ما أيقن أحقية من يكبرونه سنًا وخبرة وعلمًا، ثم وقف من بعده إحدى قامات التدريس، مُعربًا عن استعداده للعمل في الخارج مقابل نصف الراتب المُعلن عنه، وراح هذا المُعلم يسرد سنوات خبرته في الخارج وكيف كان يقوم بأكثر من مهمة في منشأة واحدة مقابل أجر واحد، وأنه لم يعد من هناك إلا مُجبرًا.. انتفض حديثُ التخرج من هول إحباطه، قبل أن تتداعى على مخيلته الأسئلة واحدا تلو الآخر، ما الذي دفع هذا المدرس المفضال لبخس ثمن علمه بهذا الشكل، وحضرته جملة «كيف نساويكم بمن علموكم» التي قالتها إحدى قادات الدول الأوروبية لقضاة خرجوا في الشوارع، مطالبين بمساواة رواتبهم بما يتقاضاه المعلمون، قبل أن ينصرف من فوره مقررا الاكتفاء بعمله الذي لا علاقة له بما درسه وإرجاء فكرة السفر إلى حين..


الفصل الثالث

رشحه، لكفاءته، أحد زملائه للعمل محررًا بإحدى الصحف العربية التي لديها مكتب بالقاهرة، لكنها تشترط العمل بأدوات ذاتية، مقابل راتب، من وجهة نظر مدير المكتب، يضم كلفة استعمال تلكم الأدوات، علاوة على أنه أعلى قليلا من متوسط الرواتب المتداولة بسوق الصحافة هنا.. وافق على العمل كونه من المنزل وقد يساعد العائد من ورائه في تحسين دخله، ومع مرور الوقت وتغير حركة الأسعار، استغل مقابلة أحد مسؤولي الصحيفة علّه يحصل على راتب أعلى مما يتقاضاه آنذاك، قبل أن يجد ردًّا بأن الأمر تم تقديره بعد دراسة مدققة لما يتقاضاه زملاؤه في بلده، وأنهم لو وجدوا معدلات أعلى، لربما تغير التقدير..
مشهد متكرر
وفي خضم السير بطريق مهنة البحث عن المتاعب وسعيا منه لإيجاد ما يعينه على توفير سكن أكثر ملاءمة لوضعه الاجتماعي كمحرر محسوب على الطبقة ذات الدخل المتوسط، وجد فرصة عمل بموقع إلكتروني لصحيفة عربية كبرى طلبت
إجراء اختبار، لم يشغله اجتيازه فهو المشهود له بالكفاءة بين زملائه، لكن ما شغله هو ما جاءه اعتراضًا على راتب كان قد حدده في أثناء ملئه ما يسمى الـ«أبليكيشين»، زاعمًا أن المكان لا يتحمل هذا الرقم، وأن مدير «الشيفت»، شخصيا، لا يتقاضاه، رغم أنه ربما قد لا يصل لنصف ما يحصل عليه زميله في المقر الأم لتلك الصحيفة!

---------------------------

بقلم: عزت سلامة العاصي

مقالات اخرى للكاتب

«العصفور المفترس».. هل أدرك المحتل حجمه؟





اعلان