"حتى الدنيا لها وش وضهر .. يوم ترفعك لسابع سما ويوم تهبط بك للأرض" .. لم تكن وحدها ضحى تلك الفتاة الريفية البسيطة من يدرك تلك الحقيقة والتى عبرت عنها بتلقائية موجعة .. وإن تجسدت لها بقوة في لحظة وصلت فيها لقمة فرحة اغتصبتها من الأيام العبوس دوما في وجه أمثالها من المهمشين المطحونين.
تفتحت عيناها لتجد نفسها مسؤولة عن أسرة بعد غياب الأب ، فذاقت تعب ومرارة المسؤولية قبل أن تتذوق طعم وحلاوة الحياة. كبرت قبل الأوان وفاتها مثل كثيرين في مثل حالها لهو الطفولة ومتعتها ودلالها.
تخلت رغما عنها عن أحلامها الخاصة ، وبات كل ما يشغلها توفير احتياجات الأسرة التي أصبحت هي عائلها .. تاهت أحلامها جميعا حتى ذلك الحلم الأثيرالذى تحلم به كل فتاة بأن "تحب وتتحب" .. ونسيت أنها همست به بينما يداها متعلقة بأعمدة مقام أحد أولياء الله الصالحين .. تتبرك به مثلما كانت تفعل أمها وأهل قريتها البسطاء الذين ضاقت بهم سبل الحياة ، فتعلقوا ببدعة التبرك ووجدوا فيها ملاذا يملؤهم بالسكينة والرضا ، ويمنحهم بريق أمل بأن أحلامهم البسيطة العصية على التحقق ربما تتراءى لأعينهم يوما ما.
تأخذك ضحى لعالم المهمشين ، تعايشهم .. تدخل بيوتهم الفقيرة بإحدى قرى طنطا ، تسمع حواراتهم ، تغوص في أحزانهم ، تتعاطف مع أزماتهم وضيق حالهم .. تأخذك الشفقة عليهم من كثرة مايمرون به من أزمات ويدهشك تحايلهم لمواجهة كرب الدنيا ونكد الأيام .. بضحكة صافية وفرحة من القلب وطبطبة يد واهنة على جسد شقيان .. تتورط رغما عنك في التعاطف معهم وتكون أكثر رحمة في التعامل مع زلاتهم وخطاياهم وأخطائهم .. يطغى البعد الإنسانى ليزيح البعد الأخلاقى قليلا ، ويرغمك على تقبل تلك الشخصيات بكل مافيها من ضعف وتقبل كل مافيها من طهر وقبح.
نجحت المريمتان "أبو عوف" مخرجة و"ناعوم" مشرفة على ورشة كتابة سرد وكاتبا السيناريو والحوار أحمد بدوى وشادى عبد الله في خلق تلك الحالة من خلال تجسيد رائع لحياة البسطاء المهمشين بكل تفاصيلها في مسلسل "وش وضهر" الذى يعرض على إحدى المنصات ، ويقوم ببطولته النجمان إياد نصار وريهام عبد الغفور والواعدة ثراء جبيل وإسلام إبراهيم... نقلونا لبيوتهم الفقيرة ، شوارعهم الضيقة ، فتحوا لنا قلوبهم لنتعرف على أحلامهم .. أزماتهم .. ضربات الدنيا المتلاحقة على رؤوسهم .. تحايلهم لتحمل تلك الضربات والمعافرة لاقتناص الفرحة من بين براثن الأحزان الجاثمة بقوة وقسوة على الصدور.
لم تكن تلك الشخصيات المهمشة بعيدة عنا .. فكثيرا ما نلمحها وتصطدم بهم أعيننا في كل مكان ، وإن كنا نجهل كثيرا عن تفاصيل حياتهم وعالمهم الخاص بكل مافيه من أفراح وأتراح وخطايا وأخطاء ..
لاندرك التفاصيل لكننا نوقن أن للفقر تبعات وأن للقهر زلات وأن لحياة الكثير منا "وش وضهر" .. ومابين أحلامنا العصية وواقعنا المأزوم بون شاسع ، وإن لم نكف دوما عن المعافرة والتحايل لتحقيق مانراه مستحيلا وتظل أيدينا رغم الصعوبات قابضة على الحلم .. وإن شطح الضعفاء منا وتورطوا في جرائم ظنا منهم بأن مايفعلوه مجرد تحايل على الواقع لايستحق عقابا مادامت أيديهم لم تتعمد إلحاق ضرر أو تتورط في إيذاء الآخرين . تماما مثلما فعل جلال الهارب من جحيم حياته التي عاشها قهرا مع زوجة لاتقدره وتستهين به وتعامله بإستعلاء وبين عمل بسيط اضطرته الظروف القاهرة أيضا إليه ، لتطيح بقسوة حلمه العظيم أن يصبح يوما ما طبيبا.
رغم القهر لم يتخل عن حلمه وإن حققه بالتحايل والانتحال ليصبح بين عشية وضحاها طبيب الغلابة ، مستغلا خبرته التي اكتسبها من العمل لسنوات طويلة في عيادة طبيب مشهور تبناه إنسانيا.
لجمال الطبيب المزيف وش وضهر مثل كل الشخصيات المحيطة به ، الممرضة التي اضطرتها الظروف يوما للعمل كراقصة درجة تالتة أملا في تحسين حال أسرتها .. وذلك المتقى الورع "أبو براء" الذى يقدم خدماته للجميع بلا تردد ويساعد الفقراء دوما إلا أن مظاهر الورع والتقى تلك تكاد تخفى جانبا أخر يتسم به ، بتنصيب نفسه حامى الحمى واستخدام البلطجية أحيانا مع الذين يعملون بإشارة منه ، دون أن يظهر هو في الصورة فضلا عن شهوته للنساء وتعدد زيجاته.
أسقط "وش وضهر" الأقنعة ، بدت الوجوه على حقيقتها وتجلت تلك الحقيقة عارية بلا رتوش أو خداع بمحاولات تجميل مفتعلة .. تعاطفنا معها وتقبلنا خطاياها وسلمنا بعقابها وارتحنا لتطهرها ونقائها .. وتمنينا أن تظل على تلك الحال وألا تدبر عنها الدنيا ثانية ، فتشيح عنا بوجهها ولاتجد أمامها سوى الضهر والعتمة والأفول.
--------------------------
بقلم: هالة فؤاد