29 - 03 - 2024

على طريق الخلاص (١) امرأةٌ ورَجُلان

على طريق الخلاص (١) امرأةٌ ورَجُلان

للأزمة العميقة التى نعيشها الآن أسبابٌ ووجوهٌ متعددة .. منها ما ننفرد به ومنها ما سبقنا إليه آخرون .. وللخلاص طُرُقٌ متشعبة، تختلف من حالةٍ لحالةٍ ومن بلدٍ لبلدٍ .. لكن نقطة البداية المشتركة بينها جميعاً هى مكافحة الاحتقان الداخلي وتجاوز الثارات .. وهى مهمةٌ غير سهلةٍ فى بلدٍ بحجم مصر، لا يريد أعداء الخارج وحَمقَى الداخل لهذه الخطوة الأولى أن تتم .. وعلَى نَمَطِ أغنياء الحرب الذين يتربحون من الأزمات التموينية وقت الحروب، يوجد أثرياء الفتنة الذين يتربحون من استمرارها ويتدفأون بنيران الكراهية .. وكُلَّما خمدَت نارٌ أشعلوا غيرها .. وينزلق الجميع وراءهم بجهلٍ أو سوء نية .. فيُسكتون كُلَّ صوتٍ يسعى بين الفرقاء بالعقل، وينهشون صاحبه بالاتهامات.

لسنا أسوأ من غيرنا .. غير أننا بحاجةٍ لحكماء يتقدمون الصفوف .. يبدأون بأنفسهم ويضعون ثاراتهم ويتسامون على آلامهم الشخصية فيصعب أن يزايد عليهم أحد .. رجال كنيلسون مانديلا فى جنوب إفريقيا الذى قال بعد ٢٧ عاماً من الحبس الانفرادي (إن الشعب الشجاع لا يخشى المسامحة من أجل السلام) وعَيَّن غريمَه رئيس الوزراء الأبيض نائباً له، وشكَّلَ لجان الحقيقة والمصالحة للتحقيق فى جرائم البيض والسود على السواء، وتم طَىُّ هذه الصفحة للتقدم للأمام بعد ثلاثة قرون من المظالم والدماء .. أو بول كاجامى فى رواندا، الذى قادها من بلدٍ نشبت فيها حربُ إبادةٍ أهليةٌ بين عنصرى الدولة (الهوتو والتوتسى) قُتِل فيها في مائة يومٍ فقط نحو مليون مواطن (من إجمالى عشرة ملايين) بالمناجل والسيوف واغتُصِبت مئات الآلاف من النساء .. فحوَّلَها فى سنواتٍ قليلةٍ إلى دولةٍ آمنةٍ تسجل نمواً في الناتج القومى المحلى ٧.٥٪؜ ويتم تصنيفها فى المرتبة الثانية بعد موريشوس من حيث سهولة ممارسة الأعمال التجارية فى أفريقيا وحازت لقب أنظف عاصمة إفريقية والريادة فى مجال السياحة .. .. شئٌ قريبٌ من هذا حدث أيضاً فى الجزائر ودولٍ أخرى.

فى تاريخنا العربى فتاةٌ لا تَقِّلُ حِكمةً وعَظَمَةً عن هؤلاء، أنهت حرباً أهليةً داميةً شرسة أنهكت جزيرة العرب فى الجاهلية واستمرت أربعين سنة(!)، بدأت بمسخرةٍ وانتهت بمفخرة .. أتحدث عن تلك الحرب الضروس التى قامت في نَجْد بين قبيلتى عبسٍ وذبيان وعُرِفت باسم حرب داحس والغبراء .. أما داحس والغبراء فهما فرسا سباقٍ، قام صاحب إحداهما بالتربص بالأخرى وتعطيلها في أحد المنحنيات ففازت فَرَسُه، ولما علم الآخر بهذا الغِش اقتتلا وقتل أحدهما الآخر .. كان المُقتتلان من عَبْس وذُبيان وهما فرعان لبطنٍ واحدةٍ وهى قبيلة غطفان، لكن دائرة القتل الجهنمية اتسعت وانضمت لهما قبائل أخرى واستعرت نيران الحرب العبثية وزَكَّتها آلاف الجماجم وكان من بين ضحاياها على سبيل المثال عنترة بن شداد وعروة بن الورد وغيرهما .. أما كيف انتهت هذه المهزلة الدامية فقد اختص الله تعالى بهذه المكرمة فتاةٌ عربيةٌ صغيرةً اسمها بهيسة بنت أوس الطائي وكانت صُغرى أخواتها وأجملهن .. فلما خطبها الحارث بن عوف (وهو واحدٌ من شرفاء العرب ونبلائهم) عقدت العزم على أن يكون مهرها مختلفاً عما جرت عليه عادة مثيلاتها .. فلما ضُرِبت لهما خيمة ٌفى ديار أبيها وأراد الحارثُ أن يدخل بها صَدَّته قائلةً (أعند أبى وإخوتى؟ هذا والله ما لا يكون).. فأمر بالرواحل وارتحلوا  بعيداً عن ديار أبيها .. فلما أراد أن يبنى بها في مكانٍ ناءٍ بالصحراء، استنكرت منه ذلك قائلةً إنه بذلك يُعاملها كما تُعاملُ السبايا، أما الحرائرُ من أمثالها فلا بُد أن يُحتفَلَ بزواجهن ويُدعى العرب وتُولَمَ الولائم .. ولأنه ذو مروءةٍ ويعرف الأصول فقد وافقها .. فارتحلا، ولما وصلا إلى دياره دعا سادات العرب لوليمة العُرس .. ولما انفرد بها استنكرت على شريفٍ مثله أن يتفرغ للنساء بينما العربُ يقتلُ بعضُهُم بعضاً .. فلمَّا سألها النصيحة  قالت له (اخرج إلى القوم فأصلح بينهم) ..  فخرج الحارث حتى أتى القوم فمشي بينهم بالصلح (مع أنه صاحب ثأرٍ ووَلِىُّ دم) وتَحَمَّلَ مع شريفٍ آخر هو هرم بن سنان ديات القتلى من الطرفين في ثلاث سنواتٍ .. وقد خَلَّدهما الشاعر الكبير زهيرُ ابن أبى سلمى فى مُعلقته الشهيرة وأغفل بهيسة رغم أنها أصل هذه المأثرة (ذكوريةٌ جاهليةٌ واضحة!) فقال فيهما:

(تَدارَكتُما عَبساً وَذُبيانَ بَعدَما .. تَفانوا وَدَقّوا بَينَهُم عِطرَ مَنشِمِ

وَقَد قُلتُما إِن نُدرِكِ السِلمَ واسِعاً .. بِمالٍ وَمَعروفٍ مِنَ الأَمرِ نَسلَم)

جمح الخيالُ بى وتصَّورتُ أن هذه الفتاة العظيمة لو ظهرت في أيامنا، لكان نصيبها المؤكد جائزة نوبل للسلام .. إلا أن العقل عاجلنى مستنكراً: ومن أدراك أنها لم تكن لِتُتَهم من الممسوحةِ عقولُهم مِن ذرية بنى ذبيان بأنها خليةٌ نائمة وطابور خامس من بنى عبس الذين عادوا ليشنوا حرباً من حروب الجيل الرابع وتكدير السِلْم العام .. لتستقر سريعاً فى سجن القناطر  .. ويُودَع زوجُها ورفيقُه فى سجن بدر أو وادى النطرون فى انتظار عفوٍ رئاسىٍ لا يجئ(!).
------------------------------
بقلم: مهندس/ يحيى حسين عبد الهادى


مقالات اخرى للكاتب

بل يجب الإفراج عن الجميع بمن فيهم الإخوان





اعلان