29 - 03 - 2024

بعض الدروس في ذكرى نصر أكتوبر: جيشنا يا مدرسة .. حرب وفن وهندسة

بعض الدروس في ذكرى نصر أكتوبر: جيشنا يا مدرسة .. حرب وفن وهندسة

في الملاكمة عندما ينوي ملاكم الهجوم على منافسه داخل الحلبة ، ستجد ذراعيه مفتوحتين ، بينما يتخذ الملاكم الآخر وضعية الدفاع عن وجهه ، بضم ذراعيه حول رأسه ، ليتفادى اللكمات المؤثرة .

وهكذا الحرب .. إما وضعية هجوم أو وضعية دفاع .. في الأولى تفتح القوات أجنحتها في الميمنة والميسرة لتطويق العدو ، ثم توجه له الضربة القاتلة من قوات الوسط .. وبالتبعية تفرض قواعد العلم العسكرى على الطرف الآخر اتخاذ وضعية الدفاع ، بالانكماش والتخندق وإقامة ساتر نيراني كثيف يمنع تقدم القوات المهاجمة.

الدفاع يحتاج بالضرورة تجهيزات هندسية مثل حفر خنادق للأفراد والدبابات وإقامة دشم لاختباء منصات الصواريخ والطائرات ...الخ ، باختصار تجهيزات هندسية تغلق الأبوب أمام المهاجم .. والعكس صحيح ، التجهيزات الهندسية للهجوم (ببساطة) في حاجة إلى طرق ومدقات مفتوحة تسمح بتقدم الدبابات والمدافع ، والعربات المجنزرة للانقضاض السريع على الخصم.

وبناء عليه يمكن قراءة نوايا أي طرف ، من تشكيل أوضاع قواته سواء كانت في الفتح أو الإغلاق والإنكماش ، ليعرف أي مبتدىء في الأكاديميات العسكرية ، ما إذا كان هذا الطرف ينوي الهجوم أم لا.

وتأسيسا على تلك القاعدة في العلم العسكري ، أعلن موشى ديان بثقة وغرور وتعالي أن الجيش المصري الذي يتخندق في أوضاع دفاعية غرب القناة يلزمه مساعدة ومعاونة من سلاحي المهندسين الأمريكي والسوفيتي مجتمعين لعبور قناة السويس والتغلب على الساتر الترابي واقتحام خط بارليف، لأن القوات المصرية المتخندقة أمامه على الضفة الغربية عبارة عن خمسة فرق مشاة ، وأن الهجوم يستلزم وجود القوات المدرعة المصرية من الدبابات ،المتخندقة على بعد  يتراوح من 20ك إلى 30 كيلومتر في الضفة االغربية من قناة السويس ، وفي حالة تحركها للهجوم ستضطر إلى فتح التشكيلات وظهورها على سطح الأرض ، ما يجعل اكتشاف نوايا الهجوم المصري أمرا سهلا ومبكرا ، وبالتالي يمنح قواته التكتيكية ( سرايا وكتائب) المرابطة على بعد قليل من خط بارليف التقدم ، واحتلال مرابض النيران المخصصة لها في النقاط الحصينة للخط الدفاعي الأول للجيش الإسرائيلي شرق القناة ،ومن ثم تحويل قناة السويس إلى بحيرة من دماء المصريين ، قبل أن يستدعى قواته الاستراتيجية في سيناء (ألوية وفرق دبابات) للتقدم واحتلال النسق الدفاعي الثاني للجيش الإسرائيلي في سيناء ، ما يجعل المصريين يفكرون مليون مرة قبل التهور وشن هجوم أشبه بـ "الإنتحاري" على الضفة االشرقية للقناة،حيث يصبحون لقمة سائغة للطيران الإسرائيلي ومدرعاته إذا ما فكروا في العبور.

إلا أن العبقرية العسكرية المصرية لم يفت عليها قواعد العلم العسكري ، ودرست واستوعبت (وذاكرت) خبرات حرب الاستنزاف ، وعمليات عبور أفراد الصاعقة والمشاة المتخندقين في الضفة الغربية للقناة ، والتسلل والهجوم على قوات الجيش الإسرائيلي المرتكزة على خط بارليف ، ونجاحها في مواجهة المدافع والدبابات والتحصينات القوية الإسرائيلية .. وعلى ضوء خبرات حرب الاستنزاف قررت هيئة عمليات القوات االمسلحة أن تهاجم وتقتحم خط بارليف بالمدافعين دون استدعاء القوات المخصصة والمتدربة على الهجوم ، وبالتالى استخدام ذات التجهيزات الهندسية للقوات المتخندقة في أوضاعها االدفاعية ، للهجوم واقتحام االضفة الشرقية ، حتى لا يكشف العدو الإسرائيلي نوايانا عندما تحين ساعة الصفر ، لتحقق المفاجأة االاستراتيجية الكاملة التي لم يفعلها أي جيش في تاريخ االحروب العسكرية ، وتحقق ما لم يتوقعه بالمرة القادة العسكريون في تل أبيب.

وتأسيسا على استراتيجية الهجوم (المفاجأة) تم اعتماد تكتيك القتال بالمواجهة لفرد االمشاة الذي كان تسليحه عبارة عن البندقية الآلية (كلاشينكوف) وقنابل يدوية معدودة ، وتم إعادة تسليحه بصواريخ مضادة للدبابات (الآربيجيه) وألغام مضادة للمدرعات ، وتأهيلة وتدريبه لمواجهة استراتيجية الجيش الإسرائيلي التي تعتمد وتراهن علىى الصدمة التي تحققها االدبابة على أفراد المشاة عندما تقتحم مواقعهم .. لم يتوقع العدو الإسرائيلي هذا التكتيك المصري في القتال بالمواجهة المباشرة ، حيث كان الجنود المصريون يفرون من أمام الدبابات الإسرائيلية المتقدمة خلال حرب يونيو 67.

لقد لعبت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة ، دورا مؤثرا للغاية في نجاح الجيشين الثاني والثالث الميدانيين في اقتحام خط بارليف ولولاها لكانت القوات المسلحة في حاجة بالفعل إلى الأمريكان والسوفيت مجتمعين لإيجاد حلول هندسية لعقبات العبور الهائلة.

ولعل أبرز االعقول الهندسية كان اللواء المهندس  أحمد حمدي صاحب فكرة كبارى العبور فى حرب أكتوبر، وعندما حانت ساعة الصفر يوم 6 أكتوبر طلب اللواء من رئيس أركان القوات المسلحة التحرك شخصيا إلى الخطوط الأمامية ليشارك أفراده لحظات العمل في تركيب الكباري علي القناة، واستمر وسط الجنود في المعركة ، طول الليل بلا نوم ولا طعام ولا راحة، يتحرك من هنا إلى هناك حتى أتم تشغيل معظم الكباري والمعابر

كانت كباري العبور عبارة عن براطيم (صندوق من الصلب) ملتحمة ببعضها ،و قامت ورش سلاح المهندسين بإنتاج أجزاء من تلك البراطيم اللازمة للعبور ، ثم إستعانت بمصانع القطاع العام لإنتاج أجسام البراطيم كاملة، وأصيب عدد من ضباط السلاح والجنود أثناء التدريب ، والبعض فقد يديه أو أصابعه حيث أن بعض من تلك المعدات يبلغ وزنه 600 كيلو .. والبرطوم الواحد في الكوبري يضم أكثر من ألف قطعة مختلفة الحجم ، والكوبري يحتاج إلي عشرات البراطيم (تقرير رسمي سبق نشره)، صنعها عمال مصر ورجال سلاح المهندسين بأقصي كفاءة فنية عالية ..وأبتكر المهندسون المصريون انواعاً من الكباري صناعة مصرية خالصة ، تحملها لوريات نصر (قطاع عام) مجهزة بسطح تحميل خاص ، وفي الحرب ظهر التصنيع المصري لمعدات العبور من القوارب ثم الكباري فالخراطيم اللازمة لاقامة الكباري ، فمهمات المعاونة للقوات المترجلة التي ستقتحم الساتر الترابي متسلقة أياه ، مثل سلالم الحبال ، ومثل حبال الجر ، وحبال العبور ، والمقطورات التي يدفها الجنود امامهم أو خلفهم ، وبها معدات القتال السريع (المصدر: إدارة الشئون االمعنوية)

تدرب المهندسون علي مهام إصلاح كباري العبور أثناء القتال حين ظهرت الطائرات الإسرائيلية ، فكل قطعة أصيبت بقنبلة يجري إستبدالها علي الفور ،و البراطيم التي أصيبت إصابات كبيرة كانوا يرسلونها لورشهم وورش القطاع العام أثناء الحرب فتعود صالحة للعمل بعد 24 ساعة فقط.

أما اللواء المهندس يوسف زكي باقي فكان صاحب فكرة فتح االثغرات بقوة دفع المياة التي اكتسب معرفتها من عمله بالسد العالي ، وقد أعفت تلك االفكرة العبقرية القوات المكلفة بالعبور من خسائر فادحة في الأرواح حيث تم فتح الثغرات في ساعات وجيزة بما سمح بعبور دباباتنا وأسلحتنا الثقيلة إلى الضفة الشرقية بعد ست ساعات من اقتحام المشاة لخط بارليف لمعاونة المشاة المصريين في مواجهة الهجوم المضاد الاستراتجي للعدو بقوة ألوية وفرق مدرعة.

بالعلم والتخطيط والهندسة ، نجحت عملية عبور أكبر مانع في تاريخ الحروب العسكرية ، وهذا هو الدرس الكبير الذي لقنته لنا (ولغيرنا ) حرب أكتوبر .. درس التعليم ،وكان سلاح المهندسين يتكون عقله وفكره من خريجي كليات الهندسة بالجامعات المصرية ، لتؤكد لنا خبرات أكتوبر 73 أن الاستثمار في التعليم وإتاحته بالمجان أول درس أنقذنا وساعدنا في استعادة أرضنا المحتلة .. فهل يستعيد التعليم مكانته في أولوياتنا مرة أخرى ، حتى نتمكن من الابتكار والتصنيع والعلاج والقتال و.. عدم سؤال اللئيم؟
--------------------------------
بقلم: أحمد عادل هاشم

مقالات اخرى للكاتب

إيديولوجيا العنف .. لم تعد فاتنة !





اعلان