اتفق أغلب المؤرخين على ان المصريين لم يعرفوا الاحتفال بالمولد النبوي في زمن الخلفاء الراشدين، ولا في عصر الأمويين، ولا العباسيين ولا الطولونيين، والاخشيدين، وتؤكد الكثير من المصادر على ان الفاطميين هم أول من احتفلوا بمولد النبي (ص) عند دخولهم مصر سنة 969م، وتحديدا مع دخول جوهر الصقلي مصر وبناء القاهرة، وقصورها ثم استقبال المعز لدين الله الفاطمى، ولكن هناك مصادر أخرى تنفي ذلك؛ منها "أبو شامة" والذي يذكر أن "الملاء" هو أوّل من اعتنى بشكل منظم بالاحتفال بالمولد النبوي. فيما يذكر الإمام السيوطي أن أول من احتفل بالمولد بشكل كبير ومنظم؛ هو حاكم "أربيل" في شمال العراق الملك المظفر" أبو سعيد كوكبري" كما قال السيوطي وابن كثير: أنه أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد، وكان له آثار حسنة، وهو الذي عمّر الجامع المظفري بسفح قاسيون، وفي موضع آخر ذكر ابن كثير: كان الملك "المظفر" يعمل المولد الشريف في ربيع الأول، ويحتفل به احتفالاً هائلاً، وكان مع ذلك شهمًا شجاعًا بطلاً عاقلاً عالمًا عادلاً. وهو نفس ما أكده محمد خالد في كتابه "تاريخ الاحتفال بمولد النبي، ومظاهره حول العالم" حيث يخبرنا أن احتفالات الشيعة بالمولد النبوي كانت هزيلة لا تتناسب مع جلال المناسبة، وأن اهتمامهم الأكبر كان بالمناسبات، والأعياد الشيعية، واستشهد على ذلك بما جاء في كتاب "الحياة الاجتماعية في العصر الفاطمي" للدكتور عبد المنعم سلطان طبع دار الثقافة العلمية بالأسكندرية سنة 1992. بل أكد على ان الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى ملك "إربيل" والذي توفي سنة 620 هـ هو أول من احتفل بالمولد النبوي.
كما قال المؤرخ المصري المعروف جمال بدوى في أحد حواراته: أن الفاطميين كانوا أذكياء لأنهم درسوا نفسية الشعب الذى أتوا ليحكموه، وعرفوا أن المصريين بسطاء ودمهم خفيف يحبون السهر والمغنى والفرحة "فحبوا يدخلولهم من الحتة دى" .. ربما يكون هناك اختلاف بين المؤرخيين على تحديد أول من بدأ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، لكن ليس هناك اختلاف على أن الكثير من مظاهر الاحتفال في شتى مناحي الحياة ظهرت أو ازداد ألقها في العصر الفاطمي؛ ومنها المولد النبوي، والذي واجه المنع في بعض العصور خاصة في العصر الأيوبي على يد "صلاح الدين الايوبي"! والذي منع الاحتفال بالمولد النبوي لانها مظاهر شيعية! فقرر إلغاء الاحتفال، والذي اقتصر على قراءة القرآن، فما كان من المصريين إلا انهم لم يحتفلوا بالمولد رسميا، ولكن ظلت المظاهر موجودة؛ حيث ظل المصريون يصنعون الحلويات طوال السنة وربطوها بالمناسبات السعيدة مثل الزواج.
وبعد العصر الأيوبي جاء عصر المماليك، وتركوا المصريين يحتفلوا بالمولد كل سنة وشاركوهم الاحتفال، وكان آخر مولد نبوي احتفل به المماليك قبل دخول العثمانيين مصر، وقت "قنصوه الغورى". يذكر التاريخ أنه بعد دخول العثمانيين مصر وبعدما حارب "سليم الأول" طومان باى السلطان الأخير للمماليك"، وهزمه؛ أصبحت مصر ولاية عثمانية .. وقام العثمانيون بإلغاء المولد النبوي؛ كي يسيطروا على البلد! ويمنعوا أى تجمعات في الشوارع قد تتسبب في حالة إنفلات أمني!.
استمر الوضع هكذا إلى أن تولي "خاير بك" الشهير "بخاين بك" ولاية مصر بشعبها الذي كان ضده، لا يحبه المصريون ويقومون بالدعاء عليه في الشوارع؛ فقام بإرجاع المولد كنوع من التقرب للشعب، وهو ما حدث بالفعل لكن لم ينس المصريين جرائمه.
ما قام به "خاير" بك هو نفس ما فعله نابليون بعد دخول الحملة الفرنسية مصر، وقام بالصرف على الاحتفال، كي يتقرب للعشب ويهادنه .. يقول في ذلك شيخنا المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي الذي عاش في زمن الحملة الفرنسية علي مصر: "أن نابليون بونابرت اهتم بإقامة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وتحديدا سنة 1213 هـ ، 1798م من خلال ارسال نفقات الاحتفالات، وقدرها 300 ريال فرنسي إلي منزل الشيخ البكري نقيب الأشراف في مصر بحي الأزبكية، و أرسلت أيضا إليه الطبول الضخمة والقناديل، وفي الليل أقيمت الألعاب النارية احتفالا بالمولد النبوي، وعاود نابليون الاحتفال به في العام التالي لاستمالة قلوب المصريين إلي الحملة الفرنسية وقوادها".
وعن مظاهر الاحتفال نفسه نجد انها لم تتغير كثيرا عن العقود الماضية؛ حيث تقام سرادقات كبيرة حول المساجد الكبري والميادين في جميع مدن مصر ولا سيما في القاهرة؛ خاصة مساجد أولياء الله والصالحين كمسجد الإمام الحسين، والسيدة زينب رضي الله عنها .. تضم تلك الشوادر أو السرادقات .. زوار المولد من مختلف قرى مصر ومن الباعة الجائلين وبائعي الحلوى والأطعمة ، إضافة إلى سيرك بدائي يضم بعض الألعاب والأهم وجود المداحين وهم الفئة التي تخصصت في مدح الرسول (ص).. تذخر بعض الشوادر بحلقات الذكر، والمدائح النبوية بواسطة مُنشدين شعبيين معروفين على نطاقات محلية، يستلهمون غناءهم من قصائد المديح النبوي الشهيرة كبُردة البوصيري، إلى جانب باقة من المدائح الشعبية التي تُصحب غالبًا بالدفوف والنايات؛ كما تستضيف مسيرات الطُرق الصوفية القادمة من سائر المُحافظات لأجل هذه المُناسبة.
تغيرت الازمنة وتبدلت الأحوال وظلت مصر بعبقريتها المعهودة تستخدم موروثها الشعبي ببراعة منقطعة النظير فتعيد تشكيل الذهنية الشعبية بشكل مدهش يتجدد يوما بعد يوم.
-----------------------------
بقلم : مينا ناصف