24 - 04 - 2024

فى القلب مُتَّسَعٌ حتى للخصوم .. فاغفروا لى

فى القلب مُتَّسَعٌ حتى للخصوم .. فاغفروا لى

(في القلب مُتَّسَعٌ لِكُلِ أحبَّتي .. وبهِ الوِدادُ على الزَمانِ مَشَاعُ)- للأسف لا أذكر اسم قائل هذا البيت الجميل، وأرجو ممن يعرفه من الأصدقاء أن يدُّلَنى عليه.

كانت التعليماتُ للجندى الأمريكى أثناء حرب فيتنام أَلاَّ ينظر فى عين ضحيته وهو يقتله .. لأنه لو شاهَدَ الرعبَ فى عينيه سيشعر أنه إنسانٌ مثله وليس (شيئاً) لا قيمة لحياته .. وقد يؤدى ذلك لتعاطف الجندى وربما تردده .. فالفكرة الأساسية فى الحرب هى أن تتعامل مع العدو على أنه (شئٌ) شريرٌ وليس إنساناً .. و(الشئ) يسهل استباحته دون أى وخزٍ فى الضمير .. أما الإنسان فهو مِثلُك .. يخاف ويحزن ويفرح ويبكى وله أسرةٌ وأحبابٌ وآمال.

أما الماتادور الأسبانى الشهير توريرو ألفارو مونيرا فقد اعتزل مصارعة الثيران فى عِز تألقه فى منتصف فقرته القتالية مع أحد الثيران .. كان قد أصاب الثورَ إصاباتٍ داميةً دون أن يهاجمه الثور .. وقال فيما بعد واصفاً هذه اللحظة (فجأة نظرتُ إلى الثور .. جميع الحيوانات لديها هذه البراءة فى عيونها .. وجدتُه يتطلع فى وجهى بعد هذا القتال الدامى .. كان ذلك مثل صرخةٍ من أجل العدالة .. وأدركتُ أنه ليس هناك سببٌ لقتال هذا الثور اللطيف) .. وأصبح توريرو مِنْ يومِها من أقوى المعارضين لمصارعة الثيران.

هذا عن القتال مع عدوٍ أو حيوان .. فما بالُنا بالتعامل مع المختلفين عنا دينياً أو سياسياً من شركائنا فى الوطن .. إذا نزعنا الإنسانَ مِنْ داخِلِنا سيَسهُلُ علينا تلقائياً أن ننزع نفس الصفة عن المختلفين معنا .. وسيسهل على ضمائرنا أن نعاملهم ككتلةٍ واحدةٍ صمَّاء .. مجرد (شئٍ ) لا قيمة له ولا حقوق ولا مشاعر ولا ثمن لحياته .. سواء كان هذا (الشئ) جمهورَ النادى المنافس أو أتباع الديانة الأخرى أو أصحاب الأيديولوجيا السياسية المختلفة.

يزدحم المجال العام فى مصر فى العصر الحديث بعدة تياراتٍ (اليسار - الليبراليون- الإسلام السياسي باختلافاته- الناصريون أو القوميون .. إلخ ) أتكلم عن السياسة لا الدين، والأفكار لا الخناجر .. يتقدم بعضهم أحياناً ويتراجع الآخرون .. وبِغَّضِ النظر عن  أعدادهم، فقد ظلوا موجودين ولم يستطع أَىٌّ منهم أن يقضى على الآخرين .. لكن من مشاكلنا المزمنة وجود نفرٍ من المتعصبين فى كل فريقٍ يتوهمون القُدرةَ على محو خصومهم .. وهو خيالٌ مريضٌ لا يضر بمصلحة الوطن فقط .. وإنما يُعادى المنطق.

قُبَيْلَ أن أنشر مقالى الأخير (سرادقات عزاء) فى ذكرى وفاة الزعيم جمال عبد الناصر، علِمتُ بوفاة فضيلة الشيخ يوسف القرضاوى، فتَّرَحمتُ عليه فى آخر سطرٍ وقلتُ (أنا رجلٌ فى قلبه مكانٌ متميزٌ لكلٍ من القامتين .. للزعيم الوطنى الشريف جمال عبد الناصر، والفقيه المجدد العلَّامة يوسف القرضاوى .. ولا تناقض) .. لم يجد الكثيرون بالفعل أىَّ تناقضٍ فى تقديرى لكلٍ من الرجلين الخصيميْن .. لكنَّ معركةً حامية الوطيس احتدمت على صفحتى بين فريقين من الأصدقاء أصابني بعضُ رذاذها (أتحدث عن أصدقاء حقيقيين لا عن اللجان الإلكترونية).

قبل سنواتٍ، عندما أُجرِيَتْ لى عملية القلب المفتوح أثناء عملى مستشاراً لمجلس الوزراء فى دولة الكويت، اندهش زُوَّارى من المصريين والعرب من أن بعض زيارات ومكالمات ورسائل الاطمئنان والمحبة التى غمرتنى كانت ممن تختلف آراؤهم ومواقفهم مع بعضهم البعض (ومعى أحياناً) .. قلت لهم لا شىء يدعو للدهشة .. كلهم وطنيون يحبون مصر وإن اختلفت الرؤى .. قد يختلف بعضهم خارج قلبى لكنهم داخله شئٌ آخر  .. تعودتُ أن أختلف وأتفهم وأعذر دون أن يُنقص ذلك من حبى وتقديرى للأشخاص شيئاً .. ولكلٍ منهم فى القلب مكان .. وقلتُ للأطباء (عندما تفتحون قلبى ستجدون الجميع داخله متجاورين فلا تُخرجوا منهم أحداً .. اتركوهم فى القلب المزدحم .. وأضيفوا مساحةً جديدة بشرايين متسعة لضيوفٍ جُدُد .. دخولٌ بلا خروج .. وأهلاً بالأحباب).

لا أَدَّعِى الملائكية (يا ليتنى كنتُ كذلك) ولكنها طبيعةٌ يصعب تغييرها فى هذه السن .. اعتبروها مرضاً مزمناً أو ضعفاً فى عضلة القلب .. فاغفروا لى ولا تُثقلوا علىَّ.

معركة المقال على صفحتى كانت بين أصدقاء وانتهت سريعاً بلا خسائر  .. لكن ما هالني أن حريقاً اشتعل فى نفس التوقيت فى فضاء التواصل الاجتماعى بين الفرقاء الشركاء مع تداخلٍ مقصودٍ من لجان التهييج الإلكترونية و(شعللة) الخناقة بكميةٍ من الإساءات والإساءات المضادة التى لا كابح لها والتى تُخَّلِفُ وراءها ندوباً يصعب علاجها.

مصر فى مأزق .. وأول خطوةٍ على طريق الخلاص هى مكافحة الاحتقان الداخلي .. وقبول التعايش مع (الآخَر) المختلِف .. وهى خطوةٌ سبقتنا إليها شعوبٌ مرت بويلاتٍ تفوق ما نمُرّ  به .. نحتاج إلى من يُسَكِّنُ الجروحَ لا من يُهَيِّجُها .. مَن يطفئُ النيرانَ لا مَن يُؤَججُها .. ما يُثير الأسى حقاً هو إصرار البعض ونحن فى أواخر ٢٠٢٢ على استدعاء معارك ٢٠١٣، أو ١٩٥٢، أو ١٨٠١، أو ١٥١٧ .. إلخ .. هل هذا وقته يا سادة ؟!!!.
-----------------------------------------------
بقلم: مهندس/ يحيى حسين عبد الهادي

مقالات اخرى للكاتب

بل يجب الإفراج عن الجميع بمن فيهم الإخوان





اعلان