19 - 04 - 2024

صراع الشّاعرة العربيّة في مواجهة الفحولة الذكوريّة والشّعريّة

صراع الشّاعرة العربيّة  في مواجهة الفحولة الذكوريّة والشّعريّة

  هَل اُختُصرَتِ الصُّورةُ الذِّهنِيَّةُ لِلَيْلَى الأَخْيلِيَّةِ فِي أَنَّها عَشِيقَةُ تَوْبَةَ بْنِ الحُمَيِّرِ (قُتل55هـ،أو بعدها بقليل) إلَّا مُضَافةً للفَحْلِ؟

ذَاعتْ صُوَرٌ أُخرَى لِنِسَاءٍ مَعْشُوقَاتٍ اِحْتَفَظْنَ بِصُورَةِ "الأَنَا" عَلَى حِسَابِ الذَّاتِ؛ كَمَا في مَثَلِ  لَيلَى قَيْسٍ، وَعَزَّةَ كُثيِّرٍ، وبُثينةَ جَمِيلٍ، وَمَيَّة ذِي الرُّمَّةِ.....إِلخ، وَقَد عُرِفْنَ مِن خِلَالِ الإِضَافَاتِ الشَّهيرَةِ مجنون ليلى، وقَيس لُبنَى، وجَمِيل بُثَيْنَةَ، وكُثيِّر عَزَّة؛ وعَاشِق ميَّةَ؛ إذِ الإضَافَةُ، هُنَا، مَعَ مَا تُمثِّلُهُ قِيمَةُ الإضَافَةِ المَحْضَةِ بِما يُوهِمُ، أَو يَرسمُ صُورَةً زَائفَةً لِلوَهْلَةِ الأُولَى بِأنَّ الرَّجُلَ هُو الجُزْءُ، وَالمرْأةَ هِيَ الكُلُّ أَو أنَّها تَمتَلِكُهُ، أَو يَكْتَسِبُ مِنهَا مَا يُعَزِّزُ بهِ وُجُودَهُ، بينما إذا ذُكرتْ إحداهُنَّ مُستَقِلّةً فَلَن نَعْرفَها، في حِين يُذكرُ قيسُ بنُ الملَوَّحِ(68هـ) وقيس بن ذريح(68هـ) وجَميل بن مَعْمَر(82هـ) وكُثَيِّر بن عَبدالرَّحمَن (50-105هـ) وَذُو الرُّمَّة (77-117هـ) مُستقلِّينَ بأَسْمَائِهم؛ فَيَذْهَبُ الذِّهنُ إلى استِحْضَارِ ذَوَاتِهم دُون تَردُّدٍ، ومِثالُ ذلك ما نجدُهُ عند عُمَر رِضَا كَحَّالَة الَّذِي لم يَترَدَّدْ عِندَ تَرجَمِتهِ لِلَيلى بِنْتِ سَعدِ بنِ مَهْدِيِّ بنِ رَبيعَةَ مع إيرَادِهِ الاسمَ كامِلًا يذكر في السَّطْر الأوَّلِ أنَّها عشيقةُ قَيسِ بنِ المُلوَّحِ، ويضعَ ذلكَ بَينَ قَوسَينِ في فَهَارسِهِ  بينما ترِدُ لَيلى بنتُ عَبدِاللَّهِ بنِ الرَّحَّالِ بنِ شَدَّادٍ الأَخْيلِيَّةِ (ت80هـ)هَكَذَا؛ أَي مُسْتَقِلَّةً ، وبعدَ أَنْ يَذكَرَهَا بِذَاتِها المُستَقِلَّةِ بأنَّها شَاعِرَةٌ مِن شَواعِرِ العَرَبِ المُتقدِّمَاتِ في الإسلَامِ يذكرُ أنَّ تَوْبَة بن الحُميِّرِ كان يَهواهَا وَيُعَرِّفُون تَوْبَةَ بهَا أَحْيَانًا، بَل يُعرِّفُون جَدَّهَا عُباَدَةَ الأَخيَلَ بِهَا، وَلَعَلَّ أَدَلَّ مَا نَوَدُّ الإِشْارَةَ إليهِ قَول المُحبِّيِّ (ت1111هـ) "اشتهرَ بِها وَاشتهرَتْ بهِ ،وَلعَلَّ ذَلكَ لَم يَتَوافَرْ لشَاعِرَةٍ قَدِيمَةٍ سِوَى الخَنْسَاءِ (ت42هـ) وإنْ وُصِفَتْ بأنَّها بَكَّاءَةٌ نَدَّابَةٌ نَوَّاحَّةٌ ، وقد بدأَ هذا الحُكمُ مُبَكِّرًا مَعَ ابنِ طَيفُورِ(أحمَدُ بنُ أبي طَاهِرِ204-280هـ) "وأَجْودُ أَشعَارِ النِّسَاءِ أَشْعَارُ المَوتُورَاتِ"وَظَلَّ هَذَا الأَمرُ يُطارِدُ شِعرَ المرأةِ حتَّى العَصْرِ الحَديثِ؛ فوَصَفَ بَعْضُ المُستَشْرِقينَ الرِّثَاءَ بأنَّهُ فَنٌّ نِسَويٌّ، لم يكُنْ لائقًا برِجَالهم، وَنَجِدُ أنيسَ المقدسِيَّ (1910-1990م) يُقرِّرُ أنَّهُ "قلَّمَا نَرى للْمَرأةِ في أَدَبِنا القَدِيمِ من أَثرٍ، أَو مَقَامٍ يُذكَرُ! فَهِي في الرِّثَاءِ قد شَاركَتِ الرَّجُلَ؛ فَنَظَمتْ مَا جَادَتْ بِهِ طَبِيعَتُهَا مِن شِعْرٍ تَحدَّرَ بَعضُهُ إِلَينَا، وَأَصْبحَ جُزْءًا مِن تُراثِنَا الأَدَبِيِّ".

ويُوسُف عِيد مَع تحيُّزِهِ الوَاضِحِ لشَاعِرَيَّةِ الأَخْيلِيَّةِ، والخَنْسَاءِ يُعنْوِنُ كِتَابَهُ بِدِيوَانِ البَاكِيتَينِ، وامتدَّ الأَمرُ إلى النَّقدِ النِّسوِيِّ نفسِهِ؛ فنَجِدُ رَشِيدَةَ بن مَسعُودٍ ترَى الخَنْسَاءَ بَاكِيَةً الحَبِيبَ المفقُودَ في صُورَة الأَخِ، وأنَّ أجودَ ما قالتهُ لَيلَى هُوَ رِثَاءُ تَوبَةَ، وَتفتَتِحُ لَيلَى الصَّبَّاغُ حَدِيثَها عَن إِحْدَى كُبريَاتِ الشَّوَاعِرِ العَرَبيَّاتِ المُعَاصِرَاتِ؛ أعني الشَّاعِرَةَ الفَلسطِينيَّة فَدْوَى طُوقَان بقَولِها "سَمِعْتُ عَنْهَا مِمَّنْ حَولي رَثَّاءَةٌ بَكَّاءَةٌ"، وتُعلِّلُ رجَاءُ بن سَلامة ذلكَ بأنَّهُ أكثَرُ الأَغرَاضِ تَعبيرًا عَنِ الأنا؛ ولذَا كانَ حِكرًا عَلى النِّسَاءِ في أصلِهِ. أمَّا ما جَاوزَ ذلكَ فَاكتسبَتْ فيهِ الشَّاعِرَةُ العَربيَّةُ صُورَتَها الذِّهنيَّةَ مِنَ الوَصفِ أو الإضَافَةِ، أو السِّيَاقِ الثَّقَافيّ الَّذي يَربطُهَا بِرجُلٍ مِن أَعْلَامِ عَصْرِها، رجُلًا من رِجَالَاتِ الدِّينِ، أو حَاكمًا، أو فَقِيهًا، أو شَاعِرًا؛ كَمَا ارتبطَ اسمُ سُكَيْنَةَ بنتِ الحُسَيْنِ، وَصَفِيَّةَ بنتِ عبدِالمطّلبِ، وعِنَانَ جَارِيَةَ النّاطفيِّ، وولَّادَةَ بنتَ المُسْتَكْفِي، وعُلَيَّةَ بنت المَهدِيِّ...إلخ.

وظلَّ هذَا الأمرُ مُسَيطِرًا علَى الوَاقِعِ العَربيِّ مِن وِجْهَةِ نَظَرِ كَثيرٍ مِنَ البَاحِثينَ حَتَّى وَقْتٍ قَرِيبٍ؛ فَكَانَتِ المرْأَةُ لا تَسْتَطِيعُ أنْ تَحصُلَ عَلى إجَازَةٍ مَعْنَويَّةٍ عَلى عَمَلِها الشِّعْريِّ إلَّا عبرَ رَجُلٍ يَمْنَحُها وُجُودًا ضِمْنيًّا وشهادةَ مُرُورٍ،  كَمَا لمْ يَصنَعْ شُهرَةَ إحداهُنَّ، عَربيًّةً أو أجنبيّةً، شِعرُها سِوَى الأمرِيكيَّةِ إميلي ديكنسون (Emily Dickinson1830-1886م) بَلْ صَنَعَتْها ظُرُوفٌ مُسَاندَةٌ وَرَاءَها، عَادَةً، رجُلٌ، معَ أنَّ بعضَ الرِّوايَاتِ تُؤكِّدُ أنَّ الشِّعْرَ أصلُهُ نِسْويٌّ، وتذكرُ أنَّ السَّادنةَ السُّومَرِيَّةَ إنهيدوانا (2300ق.م) ابنةَ سُرجونَ الأكدِيِّ هِيَ أوَّلُ شَاعِرَةٍ في التَّاريخِ أَوْ بالأَحرَى صَاحِبَةُ أوَّلِ أثرٍ  شِعْرِيٍّ يَصلُ إلينا، لَقَد أعلَنَ الرَّجُلُ احتكَارَ الفُحُولَةِ الشِّعْريَّةِ؛ كمَا نَلْحَظُ من قَول أبي النَّجْم العَجْلِيّ (ت 130هـ): 

إِنّي وَكُلُّ شَاعِرٍ مِنَ البَشَرْ  ‍

            شَيطَانُهُ أُنثَى وَشَيطاني ذَكَرْ 

والغَريبُ أنَّ بَعضَهُنَّ أَسْهَمَتْ في تَرسِيخ هَذَا المفهُومِ؛ حَتَّى وَجَدْنَا إِحْدَاهُنَّ تُعْلِنُ تَذْكير شِعرِها ليَرْقَى عَلَى أُنُوثتِها، وَكَأنَّ الأُنُوثَةَ مُضَادَّةٌ للفُحُولَةِ الشِّعْرِيَّةِ:

إِن كُنتُ في الخَلْقِ أُنْثَى  ‍

            فَإِنّ شِعْرِي مُذْكّر 

هَذَا البَيتُ لنزهُون الغِرنَاطِيَّة (ت550هـ) كَانتْ تُهاجِي مُعَاصِرًا لَها، ولمَّا شَعرَ بِغَلبتِها إيَّاهُ تَعمَّدَ اقتِحَامَ أُنوثَتِها مُدِلًّا بفُحُولَتِهِ الذُّكُورِيَّة وهكذَا تقعُ الشَّاعِرَةُ، عَادَةً، بَينَ  فُحُولتينِ: إحدَاهُما مَزعُومَةٌ تَحْتَاجُ الدَّليلَ، والثَّانيَّةُ تَفَوُّقٌ نَوْعِيٌّ يَلْجَأُ إِليهِ الشَّاعِرُ إِذَا شَعرَ بعَدَمِ اكْتِمالِ فُحُولَتِهِ الأُولى؛ فَهَلْ تَستَطِيعُ الأَخْيلِيَّةُ أَن تُثبتَ ذَاتَها في مُواجَهَةِ الفُحُولَةِ؟ وهَل يُمْكِنُهَا أن تَتَسلَّحَ بفُحُولَةٍ مُكْتَسبَةٍ في مُوَاجَهَةِ فُحُولَةٍ ذُكُورِيَّةٍ شِعْريَّةً، أوجِنْسِيَّةً؟.
-----------------------------------------
بقلم: د.محمد سيد علي عبدالعال 
* أستاذ الأدب العربي بكلية الأداب بالعريش
من المشهد الأسبوعية

مقالات اخرى للكاتب

في مَحبَّة العمّ نجيب محفوظ





اعلان