29 - 03 - 2024

تاج مفقود

تاج مفقود

 كيف ومتى سيطرت عليّ عادة التأمل في مشاهد حياتية سابقة؟! بعضها يمر خاطفاً، والآخر يستمر معي لسنوات، أظل أراجعه من حين لآخر إلى أن تأتي ساعة أستجمع فيها قواي، فأعصر ذهني محاولاً كتابة بعضها، الأمر الذي جعلني أسيراً لتلك الذكريات، حزيناً على فقدان أكثرها.

بإغلاق الباب الأخير في الجامعة كان عليّ تدبر حالة فريدة لأستاذ جامعيّ جرى بيني وبينه صداقة وتلمذة، عرف في محاضراته كلها بصرامته وشدته وتفقده للغائبين، كان اسماً لامعاً في الانضباط الذاتي، وهو أمر يستدعي الحيرة، لأن غيره لم يكن بهذه الشدة في مسألة الحضور والغياب خاصة، لكن أحب الجميع منه طرحه العلمي المميز ، الذي كان بطريقة مختلفة عن غيره تسهل الإلمام بالمسائل.

على أنّ أستاذنا في غير وقت المحاضرة رقيق القلب ، كلما صادفته أو جالسته حدثني عن كتبه، وأخباره وذكرياته معها.

لا ينفك من طلب الدعاء من خاصة تلاميذه ، يوصي الطلبة أن يبتهلوا لربهم بالدعاء ؛ ليجعل من أولاده مَن يتوجه إلى تعلم العلوم الشرعية.

حقاً كان هذا الطلب يؤرقني كثيراً ، وتبدأ في ذهني عدة تساؤلات حينئذٍ ، يعقبها عدة أجوبة افتراضية، ويظل في ذهني هذا الخاطر الدائم ، أي سبب يبعد هؤلاء الفتية عن تعلم العلوم الشرعية ؛ حتى يتجه جميعهم إلى دراسة العلوم الحديثة من طب، أو صيدلة، أو هندسة.

أدركتُ بعد سنين أن لا قيمة حقيقية لأمثالنا في مجتمعاتنا ، فالمجتمع يتوجه بأسره إلى كليات القمة - كما سموها – بأصنافها ، وما نتكلم فيه أو نكتب عنه ما هي إلا ممارسات لأناسٍ في الزمن الماضي ، وأما الحاضر فهو ينقضها نقضاً شديداً ، هذا بلسان الحال والمقال.

كان أظهر ما امتلكه أستاذنا في حياته العامرة بالتدريس مكتبة حافلة بأنواع الكتب المختلفة على اختلاف تخصصاتها ، هكذا قضى الأستاذ المحتسب عمره عند الكتبية في غالب المدن المشهورة ببيع الكتب ، يبحث عن كلّ طبعة نفيسة ، أو مخطوطة نادرة، ولربما أوصى أحد المسافرين للعواصم العلمية العالمية أن يصور له بعض المخطوطات النادرة.

لا يفكر إلا في الكتب، ولا يبحث إلا عنها ، وإذا زار مدينة سأل عن مكتباتها ، وكان يرجو فيما يرجوه أن تكون مكتبته ميراثاً لأولاده، وزاداً لأحفاده!

لقد انتهى به المطاف أن يدعو الله قبيل وفاته أن يوفق الله أحد أبنائه للحفاظ على الكتب والاعتناء بها!

جاء خبر وفاة أستاذنا ، فأصابني ما يصيب الأبناء من فجائع موت الآباء ، وموت الآباء غامض عميق الأثر في النفوس.

بعد الانتهاء من مراسم الدفن والتعزية سرعان ما جلس الأبناء في مجلس خاص ليوزعوا تركته ، حقاً لم يتعلموا من أبيهم طيلة هذه السنين إلا ضبط القسمة الشرعية ، في هذه الأثناء وأنا أبكي أستاذي وأتذكر أياماً مضت معه جال في خاطري أمر مكتبته ؛ لأجد نفسي رافعاً يدي بالدعاء أن يوفق الله أحد أبنائه ليحافظ عليها.

كعادتي كنت أمر على بيت أستاذي في الأسبوع مرة، أنظر إلى غرفته التي كان يحلو له أن يذاكر فيها، ويكتب فيها كتاباته ، لعلي أجد منها ضوءاً يخرج إلي فيكذب فقده.

ذات مساء اقتربت من بيته ، فوجدت كتابه الذي كان يحرص على مراجعته بصفة مستمرة ملقى على الأرض ؛ لأفاجأ فيما بعد أن مكتبته قد بيعت بأرخص الأسعار في سوق "الكتبية"، وكأن الله أراد أن يطيب خاطري بهذا الكتاب الذي وقع منهم سهواً.

منذ ذلك الحين والكتاب في حوزتي ، اشتريت له حقيبة مخصوصة ، وأتيت بعطر باهظ الثمن لأعطره.

لم أعبأ بداية بهذا الرأي المأفون الذي استوجب عليّ أن أردّ كتاب أستاذي لأبنائه ؛ لأني أعتقد أنّي ابن الأستاذ الحقيقي ، فأنا وريث علمه ، وخير من يحافظ على كتابه.

استجبت أخيراً لطلب أحد أصدقائي ، فحملتُ كتابه إلى بيته ؛ لأردّ إليهم آخر ما بقي من رائحة أبيهم وكنوزه.

ليتهم فقهوا!

هنا كانت المفاجأة الأعظم أني قوبلت بنوع من السخرية من أبنائه ، إذ لم يتوقعوا أن يوجد في زماننا أحدٌ يعتني بمثل هذه الأمور ، ويبحث عن مثل هذه الكتب التي لا فائدة منها مرجوة في نظرهم.

كان فرحي بالكتاب وعدم فراقه يفوق أمر سخريتهم ؛ لأني وجدت في كتاب "أستاذي" رائحة العلماء التي تبعث لي كلّ أمل ، وكأنّه رسالة منه جاءتني من غير طلب ، فهذا الكتاب معدن نفيس وتاج حقيقيّ.

ربما كان للحياة منحى آخر عند غيرنا!

تلك أسئلة وخواطر لا تنتهي!

مهما تغيرت القناعات، تظل الكتب نفسها هي التي تلتهم منا الأيام الموجعة!
------------------------

بقلم: د. علي زين العابدين الحسيني 
* أديب وكاتب أزهري

من المشهد الأسبوعية

مقالات اخرى للكاتب

حين تغيب الحياة! | رثاء أمي





اعلان