20 - 04 - 2024

الجذور التاريخية للتحفيل الكروي !

الجذور التاريخية للتحفيل الكروي !

يا أهلي يابو الدلع مال فرقتك خابت .. هو الحظ اتمنع واللا الحكام تابت.

يا ابيض يابو خطين .. جبت الخيبة منيين.

رغم أن التحفيل بين مشجعي كرة االقدم يقترب عمره من المائة عام،إلا أنه مايزال شابا يافعا قويا،يتمتع بخفة الظل مثلما يتميز بالبذاءة والإساءة..وإذا كان الموسم الكروي رحل وودع غير مأسوف عليه فإن موسم "التحفيل"بين مشجعي الاهلي والزمالك لا ينوي الرحيل ويبدو إنه سمتد لمواسم قادمة ولن ينقطع،ويصيب المتعصبين من الجمهورين بمزيد من الشد العصبي الذي نشكو منه في كرة القدم وكرة الماء (والكهرباء والغاز والمواصلات والانتقالات وكل مناحي حياتنا أيضا).

ضحكت من "تحفيل"اهلاوي على فرحة الزمالك بالدوري واعتباره ضمن برنامج "حياة كريمة" الذي توفره الدولة للفئات الأكثر احتياجا وحرمانا.. وضحكت من "تحفيل" زملكاوي على الأهلى وفيه الفنان محمد هنيدي الزملكاوي وهو يطل من شباك منزل متعمما بفوطة وبدا وكأنه يصيح بشماتة على جاره دون مناداته باسمه إنما "ياللي في التالت"قاصدا بالطبع الاهلي،واستأت من تحفيلات أهلاوية وزملكاوية فيها هتك للأعراض ومليئة بالسب البذيء.

ولد التحفيل الكروي في مصر من رحم الحياة الاجتماعية والسياسية ، بمشاهدها وأحداثها اليومية،السعيدة والتعيسة سواء كان في الريف أو الحضر خلال المناسبات الاجتماعية من زواج ، طهور ، مشاجرات...الخ، واقتبس العنف من الصعيد خلال "التحفيل" عند الثأر ، وتعلم الشماتة في الحارة والأحياء الشعبية من زمن الفتوات (راجع مشاهد التحفيل في أدب نجيب محفوظ)، وتعلم المعايرة من التناحر العائلي والقبلي بين العائلات على الثروة والنفوذ .. حتى القضية الوطنية (الاستقلال) شارك فيها التحفيل بالهتاف الشهير (ياعزيز ياعزيز ، كبة تاخد الانجليز) قاصدا الضابط عزيز المصري أحد أشهر الضباط المصريين الذين واجهوا الاحتلال الإنجليزي.

التحفيلتان السابقتان يمكن اعتبارهما من "ريحة زمان" منذ أن بدأت أجنة "التحفيل" المشاركة في التكوين (الاجتماعي ـ الثقافي) لكرة القدم ، قبل اندلاع ثورة 1919 وإعادة تقديم النادي الأهلي الذي تأسس العام 1907 على يد النخبة الوطنية الجديدة التي تبنت "التمصير" في مقاومة المحتل،باعتباره نادي المصريين الوطني،في مواجهة نادي الأجانب (المختلط) الزمالك فيما بعد..

صحيح أن أول رئيس لأول مجلس إدارة أحمر كان انجليزيا يشغل وظيفة المستشار المالي لوزارة المالية (مشيل إنس) صاحب اختراع إنشاء أول فريق كرة قدم للنادي الأهلي العام 1911 ، إلا أن رئاسته للأهلي لا تلغي حقيقة الولاية التاريخية للنخبة الوطنية على التحفيل الكروي ، حيث جاء اختيار الإنجليزي رئيسا من ذات النخبة المؤسسة للأهلى لتيسير عملية الدعم المالي للنادي ، كما أكد وأصر عمر لطفي بك (ذو أصول مغربية) صاحب فكرة الإنشاء وأول رئيس مصري بعد السيد مشيل إنس.

في زمن التكوين ، وبعد ثورة 1919 كان "التحفيل الكروي" يتم على قاعدة (الاستقلال التام أو الموت الزؤام) .. وفي العام 1923 ، فاز الأهلي على فريق الديناصورات (دراجونز) المكون من أعضاء الجيش البريطاني،فقامت مظاهرة شعبيَّة من ملعب المباراة بالعبَّاسيَّة وحتَّى مقر النادي الأهلي بالجزيرة، وحمل جمهور الأهلي لاعبيه على الأعناق في شوارع القاهرة احتفالًا بالفوز علَى الإنجليز، والذي اعتبره الكَثِيرون انتصارًا للوطنيَّة ، حيث حرصت المظاهرة التي لم تشهدها القاهرة من قبل،على المرور أمام ثكنات الجيش البريطاني في قصر النيل حتَّى يشاهدها الإنجليز.

قبل واقعة التحفيلة الوطنية الكروية على الفريق الإنجليزي وفي بورسعيد،تأسس النادي المصري يوم 18 مارس عام 1920 ، في ذروة الوهج الوطني المصري الرافض للاحتلال البريطاني ، وأُطلق عليه هذا الاسم لإنه قام على أكتاف المصريين وسط عدد من الأندية في بورسعيد خُصصت جميعها لصالح الجاليات الأجنبية. فكان النادي المصري هو أول نادي ببورسعيد يجمع المصريين في مواجهة الأندية الأجنبية ، وهو ما مثل شكلًا جديدًا من أشكال المقاومة للوجود الأجنبي وتأكيدًا للهوية الوطنية في جميع الميادين بما في ذلك الرياضة وكرة القدم خصوصًا..

كانت "التحفيلات"البورسعيدية داخل ملاعب الكرة على أندية الأجانب ، ذات طابع نخبوي أيضا ،فقد أطلق أحمد بك حسني أول رئيس للنادي تحفيلته الشهيرة عندما وصف أندية الأجانب "بـأولاد يني" نسبة للاسم الأرمنى المشهور وقتها في البارات والمقاهي ، فضلا عن التحفيل الجماهيري الذي أنطلق في الملاعب بعد أن هيمن ناديهم (المصري) على دوري القناة لمدة 17 عاما منذ أن انطلق للمرة الأولى العام 1922 بوصفهم بـ "الفلاحين"

ورغم إرهاصات الهوس الكروي في حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية والاستقلال عن المحتل البريطاني فيما بعد ، بقى التحفيل الكروي أسيرا للحركة الوطنية ، ولم يتجاوز الأفراد والجماعات ، وعندما تولى عبود باشا المليونير المصري (وقتها) ، موقع رئاسة الأهلي العام 1939 انتهى المولود الجديد (التحفيل الكروي) من فطامه !.

تشير وثائق التاريخ إلى أن أول "تحفيلة" كروية تعود للباشا عبود ، الرئيس ، وكان من قوة ثروته وشدة نفوذه أن أجبر طلعت حرب باشا ، مؤسس بنك مصر على الاستقالة من منصبه تحت ضغط سحب 3 ملايين جنيه ( 15 مليون دولار وقتها) من أمواله مع شريكه فرغلي باشا ملك القطن في غضون 72 ساعة .. ومع اكتمال عمارة الإيموبيليا الفخيمة في العام 1939 أطلق مالكها عبود باشا التحفيلة الأم (إن صح التعبير) عندما اشترط على راغبي السكن في عمارته المبهرة أن يكون أهلاويا ، باستثناء الموسيقار الراحل الكبير محمدعبد الوهاب .. كما خصص أحمد باشا عبود شقتين في عمارة الإيموبيليا للمغتربين من لاعبي الأهلي وقام بتوظيف بعض اللاعبين كموظفين بشركة البوستة الخديوية ، وهي أكبر شركة ملاحة وبواخر في الشرق الأوسط في ذاك الوقت ومقرها في العمارة نفسها، ومنهم فؤاد أبو غيدة ومروان وسعيد أبو النور وأحمد زايد وعوضين وغيرهم ، ليرسي الباشا قاعدة "التوظيف" لإغراء لاعبي الأندية الأخرى على اللعب للأهلي.

كان "التحفيل" الكروي إبن زمانه ، وحكرا (تقريبا) على النخبة، يرتدي الاسموكن والطربوش ، يدخن السيجار الكوبي ، لديه طائرة خاصة أنقذت الأهلي من اللعب أمام المصري بدون صالح سليم ، الكابتن وأهم اللاعبين ، عندما تعرض بسبب أدائه لامتحان كلية التجارة إلى عدم مشاركتة نادية أمام مباراته مع المصري البورسعيدي ، فماكان من عبود باشا إلا إرسال سيارته إلى الجامعة ليستقلها صالح سليم بعد انتهاء الامتحان ومنها إلى مطار القاهرة ، حيث كان في انتظاره الباشا وأقلعا معا إلى بورسعيد ليلحق المايسترو بالمباراة.

وقبل كل تلك الثروة والعشق للأهلي ، كان عبود باشا الرجل الذي فرض إرادته "الكروية" على حيدر باشا وزيرالحربية آنذاك ( رئيس نادي المختلط) الذي بدوره شكاه إلى الملك فاروق لأنه يخطف لاعبي نادي فاروق الأول (الزمالك) بإغراءاته المالية ، وهو الرجل (الباشا) الذي قهر عبد الرحمن لطفي باشا رئيس النادي المصري (1940 ـ 1964) عندما خطف منه الهداف التاريخي للمصري (89 هدفا) السيد الضظوي.

بعد قيام ثورة يوليو 52 ، وانتظام الدوري العام لكرة القدم ، بدأ نجم التحفيل الكروي رحلة الصعود لكن تحت سقف الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال وسيطرة النخبة أيضا .. ومع نزوح الأجانب من مصر في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر ، وصدور قوانين يوليو الاشتراكية حدث تغيران جوهريان في شأن "التحفيل" الكروي .. الأول جماهيري ، حيث اتسعت الرقعة الشعبية لكرة القدم نتيجة انتعاش الطبقة الوسطى إثر سياسات التعليم المجاني وتحقيق حد أدنى من الدخل الفردي أتاح للطبقات الاجتماعية المهمشة فرصا واسعة للترفيه ، ومنها ارتياد الملاعب للاستمتاع بمشاهدة كرة القدم التي باتت عند البشر في كل الدنيا أكبر وأهم من الكرة الأرضية ذاتها.

العامل الثاني الجوهري في مسيرة التحفيل الكروي ، كان التغير الحادث في التكوين الاجتماعي للنخبة المصرية التي سبق وأن تبنت كرة القدم وأخرجتها إلى النور .. وبعد أن كانت طبقة الباشاوات والباكوات صاحبة اليد العليا في مسيرتها ، أصبح أمرها في قبضة النخبة الجديدة التي تشكلت بعد يوليو 52 من ضباط الجيش والمثقفين والصحفيين والشعراء والأدباء والجامعيين في ظل اتساع وانتشار رياضة الممارسة والبطولة بعد التأميم .. كانت مباريات "الكرة الشراب" تقام في الأحياء الشعبية وسط اهتمام جماهيري ملحوظ ، وكان سكان الأحياء الشعبية يتباهون بفرقهم الكروية التي تفوز على نظرائها من الأحياء المجاورة ويحفلون عليهم ، وبدت الكرة مثل شريان جديد يتدفق منه دماء الكبرياء والإحساس بـ"الحضور الجماعي" الذي تمت مصادرته في الحياة السياسية لصالح تنظيم سياسى واحد .

كانت الكرة المجال الأهم للمصريين لإبداء آرائهم بحرية وبدون سقف عال ، وبدأت ثقافة الطبقات الاجتماعية التي كانت مهمشة ومحرومة من الخدمات الصحية والتعليمية تعرف طريقها إلى الوجود والحضور داخل ملاعب الكرة .. وفي الشارع كان مشهد التحفيل بين جماهير القطبين يجول ويصول عندما يفوز أيا من فريقهم على الآخر ، وكانوا يجرون كلبا ضالا وهو يرتدي قميص الفريق الخاسر سواء كان الأهلي أو الزمالك .. وعلى صفحات الجرائد كانت النخبة هي الأخرى تتعاطى التحفيل عندما يفوز فريقها المفضل على غريمه التقليدي ، وتنقل جريدة الأهرام في العام 1964 عن الشاعر احمد فؤاد نجم من خلال ديوان شعري له تحفيله بين أهلاوي وزملكاوي مستوحاة من ملاعب الكرة بين كبير مشجعي الزمالك وقتها جورج سعد وكبير ألأهلاوية طلبة صقر جاء فيها:

ٍجورج/ هاتوا الدفاتر تنقرا عشان تشوفوا اللي جرا .. ده الاهلي خيبة مسجلة وحاجة آخر مسخرة .. م الكاس قوامك صيفوه والدوري منه ضيعوه .. ومشجعينه خلاص فاتوه وكل يوم بيجيب ورا ، هاتوا االدفاتر تنقرا !

ويرد طلبة صقر / مال العتاولة مصهللين وفي العناتلة (العناتيل اسم الشهرة للاهلى الذي اطلقه العظيم نجيب المستكاوي) شمتانين .. دا ماكنش دوري من سنين خدتوه أونطه وهنكره .. جمهورنا مافقدش الأمل ولا بيقعش إلا االجمل .. والاهلي لو صفه اكتمل هيخليها لكم مجزرة ونجيب الدفاتر تنقرا.

وهكذا .. اكتسب التحفيل الكروي مشروعيته من محاوره الثلاث الأساسية : انتعاش  الطبقة الوسطى ـ النخبة الجديدة ـ الشعبية الكاسحة لكرة القدم في كوكب الأرض ، إلى أن جاءت نكسة 67 وتعطل النشاط الكروي تحت تهديد القصف الإسرائيلي للعمق المصري ، واختباء النشاط الرسمي للكرة داخل الملاجىء باعتبار أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة .. فما الذي حدث بعد ذلك وأدى إلى النقلة النوعية للتحفيل الكروي في حياة المصريين؟

(نواصل في الجزء الثاني تباعا)
------------------------------
بقلم: أحمد عادل هاشم

مقالات اخرى للكاتب

إيديولوجيا العنف .. لم تعد فاتنة !





اعلان