19 - 04 - 2024

باحثو الديمقراطية و "لعنة الفيل" | عصف ذهني للبحث عن نقاط الألم داخل المجتمعات

باحثو الديمقراطية و

- ثلث سكان العالم يعاني من "تراجع حاد" فى مؤشر الديمقراطية 
- الديمقراطيات لم تشهد في أى وقت وضعاً مثاليا والدليل النظام الأبوي الذي عاشت في كنفه نساء ألمانيا حتى عام 1977 
- تعاطف من بعض باحثي الديمقراطية مع بعض اعتراضات الشعبويين، ولوم لأنهم لا يقدمون أية حلول قابلة للتطبيق

منذ أن بدأت كواليس الحرب الأوكرانية الروسية، وأصبحت أغلب مكتسبات الغرب- وعلى رأسها الديمقراطية - فى مهب الريحمثل هذه الاضطرابات راحت تزج بالعالم الأول إلى منعطف مجهولكما جعلت الشعبويين أكثر قوة وتأثيراً من ذي قبلتُرى، هل تتسبب هذه الاضطرابات في خلق مناخ يدفع بمستقبل الديمقراطيات إلى نفق مظلم؟!

هذا التساؤل يراقبه ، عن كثب، منظرو السياسات والباحثون في أزمات الديمقراطية وفق ما يسمى بـ "منحنى الفيل"(1) الذي يعكس مؤشرات هامة، ليست فقط ذات دلالة اقتصادية ، لكنها تضع أيضاً تفسيرات منطقية لما يدور الأن على أرض الواقع ، الأمر الذي دفعهم للاستغراق فى جلسات من العصف الذهني لمناقشة الوضع دون إخفاء انزعاجهم بشأن السيناريوهات القادمة. 

وبالنظر إلى التحولات الراهنة ، يبدو أن الأمور تسيرعلى نحو متدهور بالفعل بالنسبة للديمقراطيات. ولمعرفة ما يقوله العلم وباحثو الديمقراطيات حيال ذلك ، سيكون من المهم قراءة هذا البحث-، فهو أشبه بجولة داخل ذلك البرج العاجي والتحدُث إلى قاطنيه ، الذين يبدون للوهلة الأولى، أشخاصاً مشاكسين، لكنهم حقيقيون ويتعاملون بمهارة مع نقاط الألم داخل أجساد المجتمعات الليبرالية ، بحثاً عن إجابات على تساؤلات حرجة.

فى ظل الاضطرابات الأخيرة التى تعصف بالعالم خلال السنوات القليلة الماضية ، تعالت نبرة تتعلق بقضايا الرأى والديمقراطية. كما توالى صدور العديد من الكتب التى تعالج هذه النقطة ، ومنها عى سبيل المثال: (كيف تنتهي الديمقراطية؟ - التراجع الديمقراطي واحتضار الديمقراطيات - أزمات الديمقراطية....) ومؤلفات كثيرة من هذا القبيل ، إذ يتعلق الأمر برمته بأزمة منهجية عامة عصفت بالعالم قاطبة ولم تنجُ منها القارة الأوروبية. ففي مثل هذه الأوقات العصيبة التى يعيشها الغرب، تبدو الرسالة الكامنة وراء مثل هذه المؤلفات، التي جرى تداولها حتى قبل أن تلوح بوادر الحرب الروسية الأوكرانية فى الأفق ، مثيرة للقلق بصورة متزايدة. خاصة وأن الديمقراطية ، في الأصل مشروع غربي ، وكان من المتوقع أن يكون أكثر تماسكاً عند تعرضه  لهجوم مباشر. ربما تكون الحرب الروسية الأوكرانية أيضاً هى الفصل الأول في صراع واسع وممتد فى القارة العجوز، فقد تسببت هذه الحرب فى ارتفاع الأسعار وتهديد الوظائف والأمن الغذائي وأمن الطاقة ، مع احتمال وقوع مزيد من العواقب الوخيمة التى تقلص من فرص الازدهار، الذي يعد أحد أهم ثمار الديمقراطيات الغربية ، إذ توفر الاضطرابات الاجتماعية دائمًا فرصة مثالية للشعبويين. والواقع أن هناك الكثير من الأخبار السيئة حول ذلك ، حيث سبق أن ذكر موقع "تاجسشاو": "إن الديمقراطية في تراجع"، بحسب مؤشر مجموعة الإيكونوميست، والذي بموجبه يعيش 45.7 % فقط من سكان العالم في ظل الديمقراطية خلال عام 2021 ، مقارنة بـ 49.4 % في العام السابق ، وهو بمثابة أكبر تراجع شهدته القارة منذ زمن طويل.

التوزيع العادل للأعباء.. ضرورة مٌلِحة

آدم برزيفورسكي ، عالم السياسة البالغ من العمر 81 عاماً ، الذي يعيش ما بين باريس ونيويورك. كان من المقرر أن أجرى معه لقاءً ، لكنه تأجل مرتين بسبب ظروف كورونا.. يتحدث برزوفرسكي أخيراً  لـ "شبيجل أونلاين" ويخبرنا إذا ما كانت الديمقراطية على مشارف أزمة حقيقية أم لا؟! لقد اختبر "برزوفرسكي" كل ما يمكن أن يحدث في هذا السياق: بدءاً من الديكتاتورية الشيوعية، ثم الديمقراطية المتدهورة، وكان ذلك في أوائل السبعينيات عندما كان يعيش في تشيلي. وقبل وقت قصير من حدوث الانقلاب على سلفادور الليندي، قرر أن يغادر البلاد ، حيث يعيش الأن فى الولايات المتحدة الأمريكية. 

ومنذ تأخر لقائي مع "برزوفرسكي"، بدأت في بحث الأمر مع "مايكل زورن"، البالغ من العمر 63 عامًا، وهو مدير قسم الحوكمة العالمية في مركز العلوم الاجتماعية في برلين وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة برلين.. لقد قام بالتعاون مع"أرمين شيفر" من جامعة مونستر  في تأليف كتاب "الانحدار الديمقراطي"، حيث استهل االكتاب بالحديث معاً عن ما يسمي "منحنى الفيل"، وهو منحنى بياني يشبه صورة ظلية لـ "فيل" جذعه مرفوع لأعلى كما التلة الضخمة ، والذي يشرح النسب المئوية المعبرة عن زيادة إجمالي الدخول بين عامي 1988 و 2008 قياساً بشرائح الدخل المختلفة حول العالم. وعلق كلا الباحثان على هذا الرسم البياني بأن "منحنى الفيل يطرح مشكلة الديمقراطية بصورة أكثر بحثاُ عن الجذور، بحكم أن مؤشرات النمو و الازدهار في البلدان الاستبدادية كانت أعلى مقارنةً بالبلدان ذات الديمقراطيات الراسخة، وهو أمر لافت للانتباة". يرى كل من "زورن" و "شيفر" أن منحنى الفيل يعكس إشكاليتين: الأولى؛ تَنافُس الأنظمة الاستبدادية مع الديمقراطيات من أجل تحقيق الازدهار. والثانية ؛ اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء فى الدول الديمقراطية.ثم تتوالي المنحنيات، التى تشير إلى مزيد من المشاكل المتعلقة بجودة الديمقراطية، والتي تُقاس بمعايير مثل "حرية التعبير" أو "حقوق المعارضة". 

لقد توصل "زورن" و"شيفر" إلى نتيجة مفادها أن: "تدهور  مؤشر الديمقراطية فيما يقرب من ثلثي الدول الـ 62 التي كانت تُصنَف بأنها ديمقراطية في عام 2000، وفق مؤشر الديمقراطية الليبرالية، ليصبح ثلث سكان العالم يعاني من "تراجع حاد" فى مؤشر الديمقراطية". يتحدث"زورن"أيضاً عن "التواءة في "منحنى الفيل" تشير إلى فترة "ما بعد صدمة" الحرب العالمية الثانية ، حيث كانت أوضاع الديمقراطية في الغرب جيدة في البداية، و كان ذلك يرجع إلى "الليبرالية المتجذرة" التى انعشتها التجارة الحرة والتوازن الاجتماعي داخل هذه الدول. لذلك اعتبر البعض مرحلةLes Trente Glorieuses (2) التي تلت الحرب العالمية الثانية، بمثابة العصر المجيد للغرب الذي شهد توزيعاً عادلاً لعوائد إزدهاره. ولكن فيما بعد، سيطرت الليبرالية الجديدة بصورة تدريجية،  وكانت مصحوبة بـ "عولمة قسرية".

كذلك يصف كل من Cas Mudde  وCristóbal Rovira Kaltwasser ، وهما أحد الباحثين الرائدين في مجال الديمقراطية ، الشعبوية بأنها: "من الظواهر الوليدة التي انبثقت إلى الجوار فى كل من كتلتى اليسار واليمين. وكان لظهورها أسباب عديدة وأوجه مختلفة. ويمكن اعتبارها في الأساس، "ردا ديمقراطيا غير ليبرالي على الليبرالية غير الديمقراطية". ووفقًا لتعريفهم ، يقاتل الشعبويون باسم "الشعب" ضد "النخب الفاسدة".

ردة فعل على نقاط الضعف

أما بالنسبة إلى "زورن" و"شيفر"، يمثل ظهور الشعبوية مؤشراً على التراجع الديمقراطي. وفي الوقت نفسه، هى ردة فعل على نقاط الضعف داخل الديمقراطيات الغربية. لقد حددا نقطتي ضعف رئيسيتين داخل أنظمة التمثيل البرلماني يجب الالتفات إليهما: - الأولى تتمثل فى عدم تمتُع الطبقات الفقيرة في المجتمع بتمثيل نيابي حقيقي. وبعد تقييم عدد من الدراسات فى هذا الصدد ، كتب الباحثان أن مخاوف الفقراء لا تظهر إلا بالتقاطع مع اهتمامات الأغنياء ؛ بالكاد ستصوت البرلمانات ضد مصالح الأثرياء. - نقطة الضعف الثانية ، بحسب رؤيتهما ، تتمثل في التأثير المتزايد لما يسمى بـ (NMIs) - وهى مؤسسات لا تعبر عن الأغلبية ؛ مثل المحاكم الدستورية أو البنوك المركزية أو المؤسسات الدولية ، التي يتم إضفاء الشرعية إليها ديمقراطيًا بصورة غير مباشرة ، لكنها فعلياً تنسحب من العملية السياسية - ومن بينها البنك المركزي الأوروبي أو محكمة العدل الأوروبية ، فعلى سبيل المثال ، لا يتم إضفاء الشرعية على مفوضية الاتحاد الأوروبي إلا بصورة غير مباشرة من خلال قرارات أغلبية الناخبين. هنا تخضع الأغلبية لقرارات هذه المؤسسات، خاصة وأن الصراع السياسي الأساسي في الديمقراطيات لم يعد يدور بين اليسار واليمين ، بل بين الرابحين والخاسرين من العولمة ، إذ يرى البعض أنفسهم كوزموبوليتانيين ليبراليين ، فيما يفضل الآخرون رؤية وجودهم المحفوف بالمخاطر محميًا من قبل الدول القومية ، ومن ثم تكتسب هذه المؤسسات صفة العالمية ، لكنها تحدد أيضًا حياة المواطنين الآخرين الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم من خلال التصويت.

عندما قدم "زورن" أطروحات حول التراجع الديمقراطي في مؤتمر عقدته أكاديمية برلين- براندنبورغ، أبدى"فيليب مانو" ، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بريمن ، ومؤلف كتاب”Democratization”، غضبه ، إذ تجادلا بشدة لدرجة دفعت زميلا مشتركا من هامبورغ إلى تنظيم ورشة عمل أكاديمية ليجرى خلالها نقاشاً مطولاً داخل مكتبة Warburg-Haus في هامبورغ ، التي تعد واحدة من أهم غرف المعيشة في البرج العاجي الذي يقطنه منظرو الديمقراطية الألمان ، حيث تصطبغ رفوفها بلون الخشب الداكن ، وتكتظ بالكتب القديمة الضخمة ، فتبدو كأنها محاطة بـ "هالة المعرفة السامية" ، التى هى في واقع الأمر ، مخيفة إلى حد ما. لقد اجتمع اثنا عشر شخصًا حول طاولة مستطيلة خلال هذه الورشة ، فيما جلس "زورن" والرعاة جنبًا إلى جنب ، بينما جلس "مانو" في الواجهة ، مستشهداً- في ذلك السياق - بكتاب ألفته المؤرخة "هيدويغ ريختر" بعنوان «الديمقراطية - شأن ألماني». 

من جانبه استعرض"شيفر" نقطتي الضعف الحاليتين فى أغلب الديمقراطيات ، وهما دور المنظمات العالمية وضعف دورها التمثيلي ، فيما اعتبر "مانو" أنه من الصعب قول أن كل شيء على ما يرام" ، مُعرباً عن شكوك كبيرة حول أطروحات زملائه ، فيما احتدم الجدل بين الحضور. 

وبعد بضعة أسابيع ، جلس فيليب مانو ، في مركز أبحاث "المعهد الجديد" في هامبورغ ، حيث كان يجري بحثًا هناك لقرابة عام قبل أن يعود إلى جامعته في بريمن. وعندما سئل عما يتبادر إلى ذهنه بشأن ورشة العمل التى انعقدت في Warburg-Haus ، ظل صامتًا لفترة طويلة. 

"مانو" لديه طريقة غريبة في التفكير، إذ يجلس منحنياً على كرسيه ، رأسه منحن وعيناه مغمضة ، كما لو كان قد أغلقهما حتى لا يزعجه العالم الخارجي. والواقع أنه يتبنى رؤية خاصة حيال ذلك ، سبق أن طرحها في كتابه "الديمقراطية مهددة بفعل الخطابات المناهضة" ، حيث يرى تشخيص الديموقراطية بأنها تمضي على نحو سىء ، إنما هى فرضية "مُعززة ذاتياً". يتبنى "مانو" رؤية نقدية حيال دور المؤسسات العالمية ويرى أنها تواجه أزمة تمثيل حقيقي ، لكنه يختلف في رؤيته عن شيفر ، بينما يقتبس بعض النقاط عن زورن وعن زميله برزوفرسكي ، الذي تروقه عبارته القائلة : "قد لا يكون المرء مخطئًا في افتراض أن المشكلة الاستراتيجية التي يواجههاالمؤسسون  عمليًا في كل مكان - تتمثل في كيفية بناء نظام تمثيلي للأثرياء وفي نفس الوقت الاحتفاظ بجبهة تحمي مصالح الفقراء ".والواقع أن النظام التمثيلي العالمي لم يتخلص من هذا الخلل حتى يومنا هذا. في الماضي، كان يُسمح للأثرياء فقط بالتصويت ، أما اليوم يتفاعل النظام السياسي أحيانًا بشكل سلبي مع الاحتياجات والمواقف ويجعلها على هامش المجتمع.."

اعتراض مانو 

لا يرى مانو أن المشكلة تكمن في وجود عدد قليل جدًا من العمال في البرلمان. ويقول: "ليس بالضرورة أن يضع العمال سياسات أفضل لنظرائهم". يُعرَف هذا في الدوائر التي تناقش أزمة الديمقراطية باسم "اعتراض مانو"، حيث يجد أن أطروحة شيفر وزورن "خطيرة لأنها تغذي المنظورات الشعبوية غير المبررة". لا يستطيع مانو حتى الاتفاق معهما حول ماهية الديمقراطية على أرض الواقع. وإنما يفضل تعريف برزوفرسكي القائل: "توجد الديمقراطية عندما يكون من الممكن استبدال الحكومة بواسطة الانتخابات".

يقول أرمين شيفر: "فيليب مانو هو أكثر علماء السياسة إثارة للاهتمام في جيله"، بينما يشير كل من شيفر وزورن إلى ادعاء قدمه الفيلسوف يورغن هابرماس ، مفاده: "يجب أن يكون أولئك المتأثرون بالقرارات هم أيضًا أصحاب هذه القرارات. وهذا يشمل الخطاب الحر ، وهو مصطلح الديمقراطية التداولية. هذا هو النقص الذي تعانيه  العديد من المؤسسات الأوروبية التي لم يتم تضمينها في خطاب طويل ، حيث لا يكاد يوجد أي جمهور أوروبي مشترك. من هنا تتقاطع أحلام الإزدهار: من ناحية ، يجب أن تستمر الديمقراطية في التحسن ، ومن ناحية أخرى ، يجب أن تتقارب أوروبا من الداخل". 

الديمقراطية والأزمات.. اقتران بديهي 

سؤال آخر يطرحه "مانو" على "شيفر" إذا ما كان قد قرأ كتاب "الديمقراطية - شأن ألماني" للمؤرخة وأستاذة التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة القوات المسلحة الاتحادية في ميونيخ "هيدفيغ ريختر".. لقد صٌنِف هذا الكتاب داخل ورشة العمل بأنه يقدم "سرداً ساذجاً لمفهوم التقدم". يجيب"شيفر" بأنه لم يقرأ الكتاب، وإنما اطلع فقط على عروض له.. هنا تسحب "هايدفيج ريختر" على الفور جهازها الحاسوبي وتظهر في مقهى في برلين في يوم شتاء بارد ورطب. تضع الحاسوب على المنضدة أمامها وتقول إنها استعدت بحماس لهذه المداخلة ، ثم تسترسل في كتابة عبارة تلو الأخرى ، قائلة: "الأزمات هي نمط مألوف ومعتاد في الديمقراطية". "الديمقراطيات الليبرالية ديناميكية للغاية ، وتزدهر في ظل النقد والمعارضة، ولا يمكنني التفكير في وقت لم يشعروا فيه أنهم في أزمة".

 ما يزعج "ريختر" حقاً هو "ذلك الزخم المروع" – على حد وصفها ، فتقول:" لدي انطباع بأن بعض الزملاء لا يضعون التاريخ في الحسبان بصورة كافية ، من الصعب فهم الديمقراطية الليبرالية بدون الرجوع إلى حقبة القرن التاسع عشر". كما تنتقد "ريختر" البعض في تبنيهم ذلك «المفهوم الرومانسي للديمقراطية». كما لو كانت الديمقراطيات قد شهدت في الماضي، أو في أى وقت سابق وضعاً مثاليا ، وهو ما لم يحدث على الإطلاق. ريختر تتحدث بحيوية ، فهى متحمسة للبراهين والأدلة ، وليس فقط لحججها الشخصية. لقد تحدثت عن نقطة تحول مثيرة للاهتمام ، مشيرة إلى الطريقة التي عاشت بها النساء في ألمانيا خلال الستينيات ، فقد كان لهن الحق في التصويت، ولكن تعايشن مع نظام أبوي يمنحهن حقوقا أقل من حقوق الرجال. فقط منذ عام 1977 سُمح لهن بالقيام بعمل ذى أجر دون موافقة أزواجهن.  ترى ريختر، انطلاقًا من وجهة النظر هذه، أن منحنى الديمقراطية لا يتراجع حتى وإن كان يحرز تقدماً بطيئاً.

يطرح آدم برزوفرسكي رؤية رصينة ، عندما يقول: "أربعة أسئلة بحاجة إلى إجابة: ما مدى الضرر الذي تلحقه المؤسسات غير ذات الأغلبية بمستقبل الديمقراطية؟ هل هناك بالفعل أزمة تمثيل؟ هل الشعبويون محقون في بعض النقاط؟ وقبل كل ذلك ، لا بد من النظر إلى سؤال ما هى فائدة استخلاص هذه المؤشرات؟"

ربما يعتقد برزوفرسكي أن المؤسسات المعنية بمؤشرات الحريات لا تقوم بدور ذات مغزى. وإن مثل هذه البيانات التى تجمعها المؤسسات المعنية بالديمقراطيات لا يتم جمعها بشكل موضوعي ، وإنما يتم دعمها بأحكام قيمية. لكنه وجد مؤشرًا واحدًا فقط مفيدً ا، ألا وهو قياس "تأثير المال على السياسة". إذ يعتقد برزوفرسكي، المعروف بكونه داعماً لقرارات الأغلبية ، أنه سيكون من المفيد إشراك المؤسسات الدولية غير ذات الأغلبية ، قائلاً: "إنهم يبطئون الإجراءات"، ويمنعون القرارات المتسرعة ، بما في ذلك القرارات الشعبوية. لكن في النهاية، يجب أن تكون البرلمانات قادرة على نقض قرارات المؤسسات الوطنية بسهولة نسبية". كما يدعم أيضاً "اعتراض مانو" فيما يخص أزمة التمثيل ، قائلاً : "لا يضع العمال سياسات أفضل للعمال ، والنساء لا يضعن سياسات أفضل للنساء. تُظهِر الأبحاث أن النساء غالبًا ما تكون لهن اهتمامات مختلفة عن الرجال ، لكن السياسيات لا يتخذن قرارات مختلفة بشكل كبير عن السياسيين. "إذن لا أزمة في التمثيل، فإذا كان لدينا تمثيل عملي ، لن تكون لدينا صورة صارخة لانعدام المساواة".

أشار برزوفرسكي في كتابه «أزمات الديمقراطية» إلى أن عدم المساواة هي «أسوأ مشكلة» في عصرنا. لقد أظهر بحثه أن احتمالية حدوث احتجاجات تزداد عندما تزداد معدلات عدم المساواة. وهي مرتفعة لأن الدخول المتدنية لم ترتفع منذ ثمانينيات القرن الماضي ، بل فى المقابل تضخمت ثروات الأغنياء.يقول برزوفرسكي: "إنني أتعاطف مع بعض الاعتراضات التي يسوقها الشعبويون، لكنهم لا يقدمون أية حلول قابلة للتطبيق". كما يعتقد أن العامل الحاسم يعتمد على مبدأالتوزيع العادل للأعباء". كذلك لا يرى أن هناك تراجعًا ديمقراطيًا بالمعنى الدراماتيكي الذي يتداوله البعض. والواقع تبدو هذه أنباء طيبة نسبياً، عندما لا يرى عميد أبحاث أزمات الديمقراطية أننا نعاني أزمة ديمقراطية شاملة ، وإنما يُرجِع هذا الاحساس بالتدهور، بشكل أساسي، إلى وضع تعريف ضيق ومحدود لمفهوم الديمقراطية ، والذي يركز فحسب،  على الكواليس الانتخابية ، بينما يعتبر أن المؤشر الأهم لقياس الأداء الديمقراطي يتمثل فى مراقبة منحنى الفيل ، وهذا ما يتفق عليه جميع الباحثين تقريبًا. لذلك يتعين على الديمقراطيات أن تعكف على حل القضايا الاجتماعية ، و أن تفي بوعودها بتحقيق الازدهار بين الطبقات الأكثر احتياجاً  وأن تحميهم من عواقب التضخم وتغير المناخ ، وأن تمنحهم فرصًا للتقدم. حينها فقط ستشعر الدول الديمقراطية بحالة من الاستقرار النسبي فى مواجهة الاضطرابات السياسية.
---------------------------------------------
تقريرديرك كوربيجفيت
ترجمة عن الألمانيةشيرين ماهر

هوامش:

  1. -منحنى الفيل : المعروف أيضًا باسم الرسم البياني (لاكنر ميلانوفيتش) أو (منحنى حدوث النمو العالمي) ، وهو رسم بياني يوضح التوزيع غير المتكافئ للنمو وفق مدخلات مختلفة. ترجع تسميته بهذا الاسم لحكاية آسيوية حول مجموعة من الرجال العميان وفيل، إذ يحاول الرجال تحديد شكل الفيل عن طريق اللمس، لكن كل منهم يلمس جزءًا مختلفًا من المخلوق العظيم. وقد ظهر مصطلح "منحنى الفيل" لأول مرة فى  كتاب برانكو ميلانوفيتش "التفاوت العالمي" –والذي يعكس أن الـ 20 عاما التي يصفها ميلانوفيتش بأنها فترة تعاظم العولمة شهدت زيادة كبيرة في الثروات لكنها لم تكن موزعة بالتساوى عبر دول العالم.

(2)- Les Trente Glorieuses:  مرحلة إزدهار تشير إلى فترة ثلاثين عامًا من النمو الاقتصادي في فرنسا بين عامي 1945 و 1975 ، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية

رابط الموضوع بالألمانية

من المشهد الأسبوعية







اعلان