22 - 05 - 2025

إخاءالرُوَّاد

إخاءالرُوَّاد

هذه الأسماء الكبيرة التي توهجت في حياتنا الأدبية أصبحت كتلك الشهب التي تطالع أنظارنا أحياناً ثم تختفي، فالكتابة الأدبية الرصينة صارت في فترة ذهول وانكماش فرضتها الإمكانيات الضعيفة والبدايات غير المنضبطة بقانون الأدب!

ينشأ بعض الأدباء في هذه الحياة مجتهداً، فلا يحصل على قدر كبير من الأدب إلّا بعد مزيد من الجهد، حتى تتكون لديه الملكة التي يستطيع من خلالها الولوج إلى عالم الأدب ؛ ليكون من أربابه ، لكن صنفاً آخر منهم يولدون وتمتلكهم الموهبة الأدبية ، فهي حينئذٍ موهبة من المواهب يمتازون بها عن غيرهم ، ولا شكّ أن مَن كان هذا حاله فإنه يمتلك من أدوات الإبداع ما لا يكون عند غيره.

 أذكر من هؤلاء الذين امتلكوا سبل الإبداع من ريق عمرهم أستاذنا الأكبر محمد رجب البيومي ، فقد نشأ عظيماً على الأدب والعلم منذ صغره ،لم يتكلف في كتاباته ، فهو أديب مطبوع ، إذا أمسك بقلمه تواردت عليه الأفكار بكلّ أريحية ، ولذا اختلف عن غيره في تكوينه المعرفيّ وتحصيله العلميّ ، ويكفي أن أخبرك أنّه قرأ  كتب عبد الله ابن المقفع ، وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره.

وقد وقفت على هذا النص الفريد في مقاله" الصداقة كما يراها ابن المقفع" حيث استهلّ مقاله بقوله: "وقد كان أول كاتب تثقفت بأدبه في العربية ، فلا أزال أذكر قصصه الشائقة الممتعة التي قرأتها في كتابه الخالد "كليلة ودمنة" وكنت حينئذ لا أتجاوز العاشرة ، ولكنه كان يجذبني - بوضوحه المشرق - إلى متابعته دون سآمة أو ملل ، وكنت أستوعب روائعه في لذة وشغف ، فإذا ما نهضت إلى الناس كانت محور السمر وأداة الحديث ، ومهما يكن من أمر هذا الكتاب فقد جعلني أعتبر ابن المقفع - في سن الطفولة - نادرة الكتّاب ، وأستاذ البلغاء ، وما زلت أنظر إلى الرجل هذه النظرة العالية حتى اليوم ، فلا غرو إذا تحدثت عنه حديث المحب المعجب ، فغير كثير عليه أن تسطر في أدبه الصحائف وتهتم بآثاره الأقلام".

حينما نقف على هذه النصوص العزيزة فإننا نذكر النهضة الأدبية التي ضاعت ، ونقارن الحالة الراهنة بما مضى من أحوال ، وأظنّ أن ما وقع للأستاذ البيومي وقع لكثيرين من أبناء جيله ، وتتفرع هنا مسألة مهمة وهي كيفية إنتاج الأديب ، فمن كان مُعداً للأدب والإبداع فليس في حاجة إلى توجيهه للقراءة ، لأن ما في مكنونه الشخصي يكون حافزاً  لمواصلة طريقه ، وأما مَن كان وصوله للأدب عن طريق الدراسة فهو الذي يجب أن يوجه ، وحينما يتم توجيهه فلا بدّ أن يكون لكتابات كبار الأدباء ممن شهد لهم أهل الصنعة برقيّ أسلوبهم ، وجودة كتاباتهم ، فلا يلتفت إلى الكتابات الهزيلة من ذوي الضعف البياني ؛ لأن من اعتمد عليهم - لا سيما في بداية طريقه - سينشأ ضعيفاً ، وقد لا يستطيع التخلص من ضعفه ولو تقدم به العمر.

جميل أن تعود الحقبة الزمنية للنهضة الأدبية، وأن يعود روادها.

وجميل أن يبذل القائمون على أمر الثقافة قدر وسعهم لإعادة تأهيل الناشئة للاعتناء بكتب الكبار من أدباء الرعيل الأول ، وحجب ما يفسد ذوقهم الأدبي ، ويقلل من شأنهم الكتابي.

إنّي من أنصار العهد القديم ، فلا يوجد في العصر الحديث ما يستحق الالتفات إليه إلا ما كان نادراً ، والنادر عند أرباب المعرفة لا يقاس عليه ، وأعني بالالتفات إليه تقديمه كنماذج عملية للكتابة الإبداعية ، وإذا كان القديم - في نظر البعض - يصعب طرحه في واقعنا المعاصر لتغير الأحوال وضعف الإبداع فلا أقلّ من عودة القديم مع تجديده بما يناسب عقول المبتدئين ؛ لنقدم نموذجاً مشرفاً يتم فيه الالتماس ، وتتم عناصر المحاكاة والقدوة الحقيقية من خلاله.

شيء واحد يحزن قلبي : أن تقدم في عالم الكتابة نماذج ليست في مستوى الكتابة الإبداعية الحقيقية ، أقلّ ما يقال فيها أنّها جهود شخصية ضعيفة لا ترقى لنشرها ، فضلاً عن أن يحتذى بها ، ويترك الحديث عن رواد كبار ؛ كالمنفلوطي والرافعي والزيات وزكي مبارك وطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومحمد رجب البيومي ويحيى حقي ، وأمثالهم من أرباب الذوق السليم والملكة الإبداعية.

ما أجمل أن نعيد أدب الرُوَّاد الكبار!
--------------------------------
د. علي زين العابدين الحسيني 
* أديب وكاتب أزهري
من المشهد الأسبوعية 


مقالات اخرى للكاتب

مقالات حمد الله الصفتي