مع شروقِ شمس أحد أيام فصل الربيع الخلاب خرجنا في جولة بين الرياض الغناء؛ لننعمَ بظل الأشجارِ مُتصافحة الأغصان، التي اصطفت علي حافتي تُرعة (العموم) بعيدا في غرب القرية، وحطتْ علي أغصانها أسرابٌ من البلابل تشدو، ووفودٌ من العنادل تُغرد .
كان منظرُ الخُضرة التي كست الحقولَ أشبه ببُساط من السُندس الأخضر تُسرُ برؤيته العيون، كما كان الهواءُ عليلا رطبا بفعلِ قطرات الندي التي بدت كورا صغيرة لامعة علي وريقات الأشجار والنباتات، والتي لم تدم طويلا إذ سرعان ما ذابت مع أول رسولٍ من رُسل أشعةِ الشمس .
انطلقتا نلعب، ونمرح ونتسابق لنري من يصلُ إلي الساقية أو (الحلوفة) أولا ؛ ليستمتع بخرير الماء بفقاعاته الفضية، ورذاذه الذي تطاير يُداعب وجوهنا فيملأ النفسَ نشوة والقلب سعادة.
كان منظرُ الجداول التي جري فيها الماء عذبا صافيا، وبدت في قيعانها الحشائشُ الخضراء، يشبه لوحة جميلة برع فنانٌ في رسمها، والتنسيق بين ألوانها، كما كان منظرُ أسماك البلطي مُتفاوتة الأحجام وهي تتقافزُ في ماء التُرعة الصافي لتلتهم قطع الخُبز مثارًا للدهشة والعجب.
أثناء استمتاعنا ونشوتنا، شعرنا بالجوع، الذي هيج الثعبان الملتف ببطوننا، إذ لم يدر بخلدنا أن نقضي شَرخ النهار خارج البيت، ولكنْ كان لسحرِ الطبيعة قرارٌ آخر، فعزمنا علي ألَّا نئد فرحتنا، ونقطع جولتنا وسط هذه الطبيعة البكر والجو الصحو، فأطلقنا لأنفسنا العنان نلعب ونمرح، فهاج ثعبانُ أحشائنا من جديد بصورة أشد، فأجفلنا، واتفقنا علي أن يرجع كلٌ منا إلي بيته ليُحضرَ بعض الطعام، ثم يؤوب راجعا لنستأنف اللعب والمرح .
نكصتُ إلي البيت أُسابق الريح، وما إن احتواني صحن الدار، حتي أخذت أذرع فيها طولا وعرضا، أفُتش عن طعام فلم أجد طعاما مُعدا، إذ كانت أختي الصغري (سلوي) مُنشغلة بتقطيع شرائح البطاطس والباذنجان وعصر الطماطم لإعداد طبق شهي من (المسقعة)، فقلتُ لو انتظرتُ حتي إعداد الطعام سيضيعُ اليومُ وأتأخر عن اللعب، فهرعتُ إلي (برطمان) المُخَلل، واستخرجتُ عددا من كور الليمون (المُعصفَر) ووضعتُها في طبق، وصررتُ إلي جانب الليمون عددا من أرغفة الخُبز، وقلت بصوت مهموس : شيءٌ من الغموس أفضلُ من عدمه، مُمنيا نفسي بما سيُحضره رفيقا اللعب النادي والعطار ممَّا لذَّ وطاب من الطعام، وربما أسعدنا الحظُ وأحضر العطار قطعة من (الحلاوة الطحينية)، التي كان يُحضرها والده – رحمه الله – في صورة قوالب مُستطيلة ليبيعها في محل بقالة لهم كان مَقصد الجميع من شتي جوانب القرية.
إلا أن ما فكرتُ فيه فكر فيه رفيقاي أيضا، واعتمد كلٌ منا علي أخيه، إذ لم يجدا هما أيضا ببيتيهما طعاما مُجهزا، فأسرع النادي إلي (جَرة) التخليل لا يلوي علي أحد، وكان في إقدامه علي (الجَرة) أشبه بفاتح حصن بابليون، واستخرج عدة قرون من الفلفل المُخلل، مُوطنا نفسه بأن رفيقيه سيأتيان بما تشتهيه الأنفسُ وتلذُّ به الأعين .
وأخذ العطار هو الآخر، يجوبُ أرجاء الدار عساه أن يجد طعاما مُعدا فلم يجدْ، فرنا بناظريه صوب باب محل البقالة، إلا أنه كان مُوصدا بقُفل من حديد، فهرع إلي (جَرة) المُخلَّل، وكانت تُسمي في ريفنا المصرى (زلعة)، واستخرج ثلاثة أصداغٍ من اللفت. واللفتُ هو نباتٌ يشبه البنجر، كان يُخَلل رأسه وعروقه، فيُقطع الرأس إلي شطرين، يُسمي كلُ شطر (صدغا)، ووضعها - أقصد الأصداغ الثلاثة - في طبق صغير غطاه برغيف من الذرة يشبه الطبق الطائر، وخرج من بيته يُوسع الخُطي صوب رفيقيه حيث الرياض الغناء .
وعند التقائنا في الموعد المُحدد، شرع كلُ واحد يفضُ بكارة صُرته، ويكشفُ عما بها، فأسرعتُ أخبرهما أنني لم أجد بالبيت طعاما معدا، فأحضرتُ ليمونا مُخَللا، وسبحت بخيالي الخصب فيما ستُحضران من طعام .
لم أفرغ من كلامي، حتي انفجر النادي ضاحكا، وأخرج من صرته قرون الفلفل الحار، التي بدت أشبه برماحٍ معقوفة تقطُر دما، فصرخ العطار، واستلقي علي ظهره من شدة الضحك، وقال : لستُ أفضل منكما، إذ لم أجد طعاما، فأحضرتُ ثلاثة أصداغٍ من اللفت.
رضينا بما قدره الله مُحوقلين ومُحسبنين ومُسترجعين، واتفقنا بعد المداولة علي أن نبدأ بأكل الفلفل؛ اعتمادا علي أن هناك صنفين آخرين من المُخلل يُخففان من وطأته، بعدها نلتهم الليمون المُعصفَر، ثم نُحلي باللفت ظنا أنه سيكون بَرْدا وسلاما، فإذا به نارُ الله الموقدة، وكان قرارُنا بئس القرار .
--------------------------
بقلم: صبري الموجي