28 - 03 - 2024

"نحب رئيس برك"

- بعد الثورة كان الرئيس دوما هامشيا في نظام الحكم لكن الدستور الجديد يعيد إنتاج الاستبداد ودولة حكم الفرد

هذه الجملة المكونة من ثلاث كلمات قالتها سيدة تونسية لقناة "فرنسا 24" التلفزيونية الفضائية في سياق تغطية حدث استفتاء 25 يوليو الماضي على دستور الرئيس قيس سعيد . وجملة العنوان هي بالعامية التونسية، وتعني بالإحالة إلى نظيرتها المصرية: " عايزة رئيس وبس "، وبالفصحى " أريد رئيسا فقط ".

والكلمات الثلاث على هذا النحو تلخص وتجسد ـ في الظن ـ الدافع وراء ذهاب نحو 30 في المائة من الناخبين إلى الاقتراع وتصويت الأغلبية المعتادة في الاستفتاءات العربية (بنسبة تفوق التسعين في المائة) بنعم على دستور يتكون من 142 فصلا. كان يحتاج كل منها إلى نقاش مجتمعي وتصويت منفصل إذا جرى الاستفتاء في دولة ديمقراطية. وهذا بصرف النظر عن الخلاف حول صحة الأرقام والنسب ومعايير النزاهة. وقد عمق هذا الاستفتاء من الانقسام السياسي المجتمعي في تونس. وأسهم في تدمير السمعة الطيبة لهيئتها العليا المستقلة للانتخابات. وهي واحدة من مكتسبات ما بعد الثورة المشهود لها عالميا.

 ومن الواضح أن استفتاء 25 جويلية / يوليه التونسي كان بحق وفي المحصلة تصويتا على شخص. هو الرئيس قيس سعيد. وقد صحب معه على هذا النحو إنتاج مفردات من قاموس الاستبداد العربي، من قبيل: "التفويض" و"المبايعة" و"الرئيس القوي" ، وأظهر إلى الواجهة خطابا مكررا مستهلكا في كراهية الديمقراطية ووصمها بالفساد، و اعتبار توزيع السلطات والفصل بينها مع الرقابة على السلطة التنفيذية ورئيسها وبناء المؤسسات و"السلطات المضادة" والهيئات الوسيطة كالأحزاب والنقابات وغيرها من كيانات المجتمع المدني كلها معوقات للفاعلية والإنجاز، وعرقلة لإخراج البلاد من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

البحث عن "الرئيس/ الحاكم القوي" في ظل مجتمعات عانت لمئات السنين بل لآلافها ومازالت من شخصنة السلطة وحكم الفرد وعبادته مع إختلال التوازن بين الحاكم / السلطة و المواطن / المجتمع ظاهرة تستحق  التحليل والدراسة. فهو في النهاية يصل بنا إلى عدم تصور حكومة أو حكم  عند المجتمعات العربية خارج دوائر الاستبداد وسلطة الفرد مطلق الصلاحيات.  

و"إختلال التوازن" هنا هو تعبير خجول أكثر مما ينبغي.  فالمواطن في مجتمعاتنا مع توالى العصور عانى ومازال من إنكار حقوقه وحرياته وسحقها أمام سلطة تتجسد في حاكم فرد، و تتميز بالانفلات من القيود والغلو في الاستبداد وممارسة القهر والفساد.معاناة طويلة مريرة من نموذج الحاكم / السلطة المشخصنة فوق المراجعة والمحاسبة والمحاكمة والعقاب والعزل بالأساليب السلمية الديمقراطية.. وفي غياب المؤسسات وبعيدا عن المؤسسية.

الظاهرة التي تقف وراء تعبيرات تجرى على الألسنة من قبيل "نحب رئيس برك" بعد انتفاضة أو ثورة شعبية أطاحت بـ "رئيس برك" من طراز هولاء الحكام أنفسهم تدعو بالقطع للتأمل والدراسة. تحتاج أن نواجهها بالعقل والتفكير، لا بالمشاعر والعواطف، وليس بالأسى أو التشفي . هل هي حقا وكأنها ثقافة تسكن البعض منا عميقا ويتم توارثها جيلا بعد جيل، وتقوم على القبول بالاستبداد والقهر وبما دون المواطنة مقابل تصورات عن "نعيم الاستقرار في كنف الحاكم الفرد القوي"؟ . ولماذا تظل هذه الثقافة قوية متجذرة على الرغم من مولد أجيال جديدة في ظل التطورات الكونية وثورات التكنولوجيا والمعلومات وترسخ حقوق الإنسان والمواطنة في أنحاء العالم؟.  وأيضا على الرغم من ميراث مديد من معاناة استبداد وفساد " الحاكم القوي" عندنا. و لماذا تبدو وكأنها هي أقوى من محاولات استغرفت عقدا واحدا من الزمان، وإن شهد مئات المعارك في المجتمع التونسي من أجل بناء ثقافة ديمقراطية ومؤسسية؟. وكان محصله بعضها النجاح، ونتائج العديد منها الفشل والانتكاس.

 ليس هناك من جديد في القول بأن الانتفاضات والثورات العربية التي توالت في موجتين منذ نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حملت معها طلبا ملحا على تحسين ناجز سريع للأحوال المعيشية الاقتصادية لقطاعات كبيرة من الشعوب. وهذا بحكم أن تدهور هذه الأحوال كان من بين دوافع الانتفاض والثورة إلى جانب معاناة الاستبداد والفساد وحكم الفرد والدولة البوليسية.  ولا جديد في خلاصة القول بأن العقد الأول بعد هذه الانتفاضات والثورات مر و انقضى مخلفا معه تراكم مرارة وصدمة عدم الوفاء بهذه التوقعات العالية. 

وفي الحالة التونسية استثمرت قوى ورموز ماقبل الثورة بدورها في انكسار وتحطم هذه التوقعات. ولكن الكلام المسكوت عنه في الأغلب أن هذه القوى ظلت تسيطر إلى حد كبير على الاقتصاد والإعلام،  وحتى على مؤسسات الحكم، وكذا أجهزته بما في ذلك تلك المختصة بالضبط والقمع. ومن المسكوت عنه في الأغلب أيضا أن هذه القوى والرموز قامت من أجل تشويه الثورة وعرقله مسارها والانتقام منها بتوظيف سياسي متعدد الأوجه لحزب حركة النهضة الإسلامي. بداية بالتحالف والشراكة معه، ثم بالعودة إلى إقصائه والسعي لاستئصاله. وبين هذا وذاك أطلقت موجات من الفزع والتخويف منه ـ بالحق أو الباطل ـ لكبح جماح أي تغيير لصالح حقوق المواطنة والحريات.

وفي سياق علاقة الجمهور بقوى الثورة المضادة أود أن أشير إلى أمرين :

 مع أهمية اللحظة والمكان، ذهبت مراسلا "للأهرام" بتونس الى بلدة "طبربة" انتظارا ومواكبة لتشييع جثمان ابنها " خمسي  اليافرني" شهيد موجة الاحتجاجات الاجتماعية يناير 2018. وقفت أتحدث مع شباب من أقاربه واصدقائه وجيرانه أمام منزله. ولفت نظري أن العديد من الساخطين بينهم على البطالة والتنكر لأهداف الثورة الاجتماعية قالوا لي أنهم صوتوا لأحزاب ولشخصيات سياسية ، يتضح بالأصل أنها ضد  تحقيق هذه الأهداف، أو على الأقل لاتكترث بها. والحقيقة لم يكن لدي أي منهم إجابة مفهومة عن هذا السلوك الانتخابي المتناقض مع سخطهم على البطالة وارتفاع الأسعار وآثار السياسات الرأسمالية "النيوليبرالية". ولم يصرح واحد منهم بتأثير "المال السياسي الفاسد" على اللحظة الانتخابية، والذي ربما كان يجرى بعيدا عن لجان ومراكز الانتخاب والهيئة العليا للانتخابات وقتما كانت مستقلة وتستوفي المعايير والتقاليد الدولية في النزاهة والحيادية. 

والأمر الثاني أن المراقب عن كثب لمجريات الحياة السياسية لعقد كامل بعد الثورة التونسية لا يمكنه التسليم بالزعم بأن البلاد كانت تعيش نظاما برلمانيا كاملا وقويا راسخا، أو أنها كانت تعاني باستمرار ودوما من تنازع رأسي السلطة التنفيذية (رئيس الدولة ورئيس الحكومة).  والثابت أن الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي كان اللاعب الرئيسي والأول في نظام الحكم لنحو أربع من خمس سنوات قبل وفاته. وكان يحكم بتناغم وانسجام مع رئيسي الحكومة اللذين اختارهما: "الحبيب الصيد" و" يوسف الشاهد" . وهذا باستثناء نحو عام أخير يتيم حين دخل وابنه "حافظ" في صراع مع "الشاهد" ابنه بالتبني وصنيعته والمنتسب إلى حزبه "نداء تونس" بالأصل. 

بل أن خلفه الرئيس قيس سعيد ظل أيضا اللاعب الرئيسي في موازين الحكم وفي المرحلة السابقة على 25 يوليو 2021 ، وذلك باختيار رئيسي الحكومتين بعد انتخابات 2019 "إلياس الفخفاخ" و" هشام المشيشي"، وصولا إلى اساءة استغلاله للفصل 80 من دستور 2014 في نهاية هذه المرحلة، وبالعدوان على فقرات من هذا الفصل لا تسمح بتعطيل أعمال البرلمان في حالة الأوضاع الاستثنائية.  ناهيك عن قرار حل المؤسسة التشريعية ، وتعليق العمل الدستور،  فإلغائه ووضع دستور جديد من عندياته . وخلاصة القول أن القول بأن رئيس الدولة في تونس بعد الثورة كان دوما هامشيا في نظام الحكم على مدى مجمل العشرية اللاحقة لها أو في ظل دستور 24 يناير 2014 أمر محل نظر وشك، ويستحق المراجعة وعدم التسليم به هكذا. فالصورة أكثر ثراء وتعقيدا من هذا بكثير.

وفوق هذا وذاك، فإن عنوان هذا المقال " نحب رئيس برك" لعله يلخص منطقا وأيديولوجيا بكاملها ومعها جهود ترسانة من وسائل الدعاية بامتداد عالمنا العربي وليس تونس وحدها. وهي  تضخ كل ما يعزز إعادة انتاج "الرئيس/ الحاكم القوي" كل دقيقة وساعة ويوم.وكأن هذا النظام العربي المريض منتهى الصلاحية يحارب معركة تثبيت خطوط القبول بالاستبداد وبحكم الفرد بتونس ومنها مجددا تحت رايات مثل هذه العبارات والشعارات. 

ولعل كان من الأجدى في أحوالنا العربية المزمنة والراهنة هو مناقشة هامشية وصورية أدوار البرلمانات في الدول العربية بصفة عامة، وغياب وشرعية "السلطات المضادة " والهيئات والأجسام الوسيطة وضعف المجتمع المدني.  لكن في سياق الأيديولوجيا الكامنة خلف عبارة من قبيل "نحب رئيس برك"  يجرى التسويق وبمناسبة استفتاء 25 جويلية / يوليه لأن الحريات والحقوق والديمقراطية ومحاولة بناء المؤسسات المستقلة كانت في تونس مكسبا للنخبة المعارضة لاستبداد ماقبل الثورة وحدها. وفي هذا إنكار لآثار هذا الاستبداد على حياة المواطنين التونسيين عامة. وأيضا لعب غير برئ على نغمة في معزوفة هذه الأيديولوجيا تروج لأن الديمقراطية والحريات والحقوق مطلب "نخبوي" لا يهم "الشعب". والثابت ـ وحتى عبر أغاني "الراب"  المنتشرة في الأحياء الشعبية  بتونس ـ  أن عموم الشباب والمواطنين يختزنون في الصدور تراثا أسود دام من ممارسات الدولة البوليسية، لم يندمل ولم يشف الناس تماما من آثاره. وهذا مع الوعي بما شهدته تونس بعد الثورة من محاولات وجهود ومحاولات ومقاومات ومؤسسات جرى تطويرها في الاتجاه المعاكس. ونحو قطع خطوات ـ ولا نقول أشواطا ـ  باتجاه احترام حقوق المواطن وآدميته.

  في تفهم و تفكيك مايطلقون عليه كفر "الشعب" التونسي بالديمقراطية وعودته القهقرى عبر بوابات من قبيل "نحب رئيس برك" تقف اليوم كافة القوى التي جاهرت بالدعوة للقطيعة مع الاستبداد ودولة حكم الفرد والبوليس والفساد وما قبل المواطنة داخل تونس أمام مسئولية تدارس أخطائها والاعتراف بها، والتوصل إلى كيفية معالجتها. وهي المنوط بها أولا القيام بهذه المهمة، وعدم إهدار الوقت بالمكابرة وتكرار الأخطاء والتغاضي عن محاسبة القيادات وافساح الطريق أمام أخرى بأفكار وسلوكيات جديدة تحل محلها . ويستحق من ذهبوا للإقتراع بنعم لصالح " الرئيس برك " البحث عن أسبابهم ودوافعهم ومعالجتها . لكن من الخطأ والتضليل أيضا يكمن في الزعم بأنهم  هم"الشعب .. كل الشعب ". 

  وهذا ليس فقط استنادا إلى نتائج استفتاء هي محل تشكيك وجدل  بين التونسيين. بل لأن التضليل والخداع  يتضحان في هكذا أيديولوجيا تزعم بأن الشعب ـ أي شعب ـ كتلة واحدة ..ومزاجا وحيدا يلوك مقولة أعدائه بأن "العرب لا يصلحون للديمقراطية .. والديمقراطية لا تصلح لهم ".  
--------------------------
بقلم: كارم يحيى 
من المشهد الأسبوعية

مقالات اخرى للكاتب

29 أكتوبر 56: العدوان الثلاثي ومذبحة عمال





اعلان